عبد اللطيف مجدوب
قضية تربية أم فقدان ثقة؟
في كل مرافق الحياة اليومية، وأينما حللت وارتحلت؛ في قارعة الطريق أو داخل الأسرة الواحدة؛ تستأثر باهتمامك ظاهرة الغطرسة وغلو النفس وتقوقعها على ذاتها، دون اعتبار الآخر، وأحيانا كثيرة إضمار عداء مجاني لهذا الآخر، فتستشعر بسهام البغض والكراهية تتوجه إليك لمجرد مواجهتك لهذا الآخر، أما إذا دخلت معه في معاملة أو “مسعى” فثمة قضية أخرى يختصرها سياق “سير واجي” ودخول نفق مظلم ومواجهتك لحالة “التقوليب” التي أضحت في أيامنا هذه العملة الأكثر رواجا.
في ضوء هذا المشهد السريالي القاتم؛ وفي محاولة لإماطة اللثام عن ماهية هذا السلوك وكيف أمكنه غزو دروب مجتمعنا بهذه الحدة؛ يتساءل الباحث هل يمكن عزوه إلى عامل التربية؟ أم هي خصوصية لهمجية متقدمة؛ تنحو بصاحبها إلى اعتماد سلوكيات عدائية وإقصائية؟! أم هي نتيجة حتمية لفقدان الثقة في المجتمع؟..
بصمات الجائحة حاضرة
من نافلة القول الإشارة إلى كوفيد – 19 الذي زلزل بالكاد أركان المجتمع، وقوض بنياته وكان السبب المباشر في حرمان شرائح أسرية واسعة من لقمة العيش، والقذف بها إلى الشارع، فمن الطبيعي جدا أن تكون لها تداعيات خطيرة في شكل ضغوطات أعباء حياة يومية مفرطة؛ من شأنها أن تولد نظرة جديدة داخل المجتمع؛ قائمة على فقدان الثقة والتوجس من الآخر، طالما أن هذا المجتمع ومن خلال مكوناته لم يعوضها في حقوقها المهدورة، أو سلك بها سبيل “الانتظارية” الجوفاء.
كما أن السنة الإدارية غدت؛ لدى الإدارة المغربية وفي ظل الجائحة؛ سنتين، فبدلا من أن يستغرق علاج ملف إداري ساعة تحول إلى أكثر من ثلاث ساعات، أما إن كان يستوجب في الحلات الاعتيادية يوما صار بفعل كورونا (وقلة الأطر وتباعدها داخل المرفق الإداري) إلى أكثر من ثلاثة أيام أو ربما أسبوع. فلتجديد البطاقة الوطنية؛ على سبيل المثال؛ أصبح يحتم على المواطن انتظار أربعة أيام ليصله دور إيداع الوثائق، وكثير منهم زهد فيها بفعل “سير واجي”.. لتترسخ لدى المواطن قناعة بأن إدارته أصبحت “عاهرة” تميل لمن يدفع أكثر، وأما المواطن المغلوب على أمره فتقذف به في دوامة “اتصل بنا.. سير حتى نتصلو بيك..”.
أما اللجوء إلى الاستشفاء في مستشفياتنا العمومية فيتحتم على المواطن “المريض” الحصول على موعد؛ قد يمتد إلى سنة ضوئية! ويقول العارفون إن عديدا من المرضى؛ ما إن حل تاريخ موعد زياراتهم حتى كانوا قد رحلوا إلى الدار الآخرة!! فأي استهتار بالحقوق أكثر من هذا؟!
غياب التربية شبه المطلق
عديد من المؤسسات الاجتماعية فقدت أدوارها التربوية، لهذا السبب أو ذاك، فنجم عنها وجود كائنات بشرية هي أقرب إلى الهمجية؛ مجردة من كل قواعد السلوك المهذب والحضاري والاجتماعي، أحيانا تتصرف بمحض “حيوانيتها” وغرائزها من حيث تلبية حاجياتها.. إذا أكلت أفرطت ولا تحسن، وإذا عملت لا تتقن.. وإذا سافت تهورت.. وإذا وعدت أخلفت.. وإذا نامت أغرقت..!
حينما تغيب مثل هذه الأسس التربوية يتحول المجتمع؛ في ظلها؛ إلى ما يشبه الغاب أو بالأحرى سوق تروج فقط للنصب والاحتيال والكيد… والأدهى من هذا وجود ثقافة نامية بين شريحة من المجتمع وفي جميع القطاعات، لديها قناعة راسخة بأن ثقافة “الاستغفال” هي العملة الأكثر رواجا، أما ثقافة الوضوح والاستقامة فغير مجدية!
وصفوة القول إن هناك مناخا اجتماعيا بالمواصفات الآنفة، لمن شأنه أن يكرس الحقد والتباغض والكراهية واللاثقة تجاه كل مرافق الحياة التي يتردد عليها المواطن، ولا سبيل إلى تلبية حاجياته إلا عبر أساليب لاأخلاقية؛ قوامها الاستغفال والاحتيال.. أو العنف في أفضل الحالات؛ مجتمع منغلق يمور في قضايا مستعصية لا حد لها.