رسبريس – وكالات
أضحت العديد من الظواهر الاجتماعية المتفشية في الأوساط المغربية خلال السنين الأخيرة لافتة للانتباه ، بعدما كانت في ما مضى ، محدودة الانتشار، وربما كانت تمارس بطريقة مستترة لأسباب متعددة، تختلف حسب المستوى التعليمي والثقافي للأفراد ، أو انتمائهم الاجتماعي ، أو درجة تقبلهم للقيم الاجتماعية السائدة… وغيرها من الأسباب الأخرى.
وقد أصبحت بعض هذه الظواهر،التي يصنفها البعض من مؤشرات التخلف أو الممارسات الماضوية ، تكسب نوعا من القبول المتصاعد لدى الأفراد والجماعات في المجتمع المغربي، حيث شملت حتى الأشخاص الذين بلغوا مستوى عال من التعلم ، بعدما كانت مثل هذه الظواهر لصيقة بالفئات الشعبية التي لم تنل نصيبها من التعليم ،أو بالأشخاص من ذوي الدخل المحدود، الذين يستطيعون بالكاد ضمان حد أدنى من الشروط التي تمكنهم من مواصلة استمرار الحياة.
وفي هذا الإطار تندرج ظاهرة التماس العلاج ب”الرقية”، أو ما يسميه البعض ب”الرقية الشرعية”، مستندين في ذلك على نعتها ب”الشرعية” لارتباطها بالاعتقاد الديني، حيث صار التعاطي لهذا الصنف من “العلاج” ظاهرة ما فتئت تتسع رقعتها على مستويات عدة.
وموازاة مع تزايد أعداد الأفراد الراغبين في العلاج بواسطة الرقية، يلاحظ أن هناك ارتفاع مضطرد في عدد الأشخاص “المحترفين” لممارسها، كما تزايدت بشكل ملفت الأماكن المخصصة لاستقبال الراغبين في العلاج بالرقية، حيث أضحت هذه المحلات ـ بعدما كانت تحتل أماكن شبه مخبأة ـ تتموقع في أماكن يرتادها المارة بكثرة، ومنها من اختار أصحابها وضع لوحات إشهارية على قدر كبير من التأثير البصري، بل هناك من الممارسين للرقية من أصبح لديه وعي بما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من قدرة كبيرة على جلب أعداد متزايدة من المرضى/ الزبناء.
والملاحظ أن هذا الانتشار المتصاعد للرقاة ولمحلات ممارسة الرقية، وما يصاحبه من قبول متصاعد ومثير في مختلف الأوساط الاجتماعية، أصبح يشكل منافسا حقيقيا للمستشفيات ولعيادات الأطباء المخصصين في الأمراض العقلية والنفسية الذين يتوفرون على مؤهلات علمية دقيقة، قادرة على علاج مختلف الأمراض التي تدفع العديد من الأشخاص إلى التماس العلاج من هذه الأمراض ب”الرقية” ، عوض اللجوء إلى العلاج الطبي المتخصص ، الذي أثبتت ، وما زالت ، نتائجه السريرية نجاعته وفعاليته في علاج هذا الصنف من الأمراض العقلية والنفسية مائة بالمائة.
وفي هذا السياق ، يقول الدكتور حسن حجيب، الطبيب المتخصص في الأمراض العقلية والنفسية، في تصريحات ل” و م ع “،إن الراقي يعتقد أن باستطاعته علاج مرض “الصرع” ظنا منه أن هذا المرض ناتج عن تلبس الجن بالإنس ، بينما تؤكد الحقيقة العلمية الطبية أن الصرع نوعان .
وأوضح الدكتور حجيب، وهو أيضا باحث في علوم الشريعة الإسلامية، أن النوع الأول من الصرع (المعروف بالفرنسية ب L’épilepsie ) هو “مرض في الدماغ، ناتج عن نشاط قوي وغير عادي لمجموعة كبيرة ومحددة من خلايا الدماغ، وينتج عن ذلك حركات متسارعة للأطراف ، وباستطاعة الطبيب المختص أن يصف له أدوية فعالة ومضمونة العلاج”.
أما الصنف الثاني فهو مرض نفسي ناتج عن تصريف للمعاناة النفسية إلى معاناة جسدية، فيفتقد المريض الوعي ويقوم بتصرفات إما عبارة عن حركات ، معروفة في العلوم الطبية، وتسمى أحيانا ب “التشنج الحواري” (convulsion conversive) وأحيانا أخرى “التشنج الفصامي” (convulsion dissociative ) . أو أن هذه التصرفات المرضية عبارة عن تفوه بكلام بلسان شخص آخر، وهذا ما يعرف علميا ب”تفكك شخصية المريض”، بينما الراقي يعتبر هذا الشخص الآخر عبارة عن جني، يستوجب إخراجه من جسد المريض بتلاوة القرآن، أو التفوه ببعض التعاويذ، أو غيرها من الطرق الأخرى التي قد تصل حد الشعوذة والدجل والطلاسم وغيرها من أصناف الافتراء على مضامين ومقاصد الشريعة الإسلامية السمحة، التي أجازت الرقية، لكن وضعت لها شروطا محددة.
وعن هذه الشروط ، يوضح الدكتور مصطفى بن عمر المسلوتي ، أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر ـ أكادير ، أن من بين الشروط التي وضعها علماء الشريعة لممارسة الرقية ” أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، والتوكل عليه، وأن يعتقد الراقي والمرتقي أن الرقية سببا لا تؤثر بذاتها، وإنما المؤثر هو الله ، وأن لا تكون بشرك أو كفر، وليس من شرط الرقية الذهاب عند الراقي ، ولا أن يكون الراقي حافظا للقرآن الكريم بكامله، بل يشترط فيه حسن التوجه إلى الله والتوكل عليه…”.
ولاحظ الأستاذ المسلوتي، وهو خريج دار الحديث الحسنية، أن الممارسات المعاصرة للرقية “يفرض التحذير من كثير من الممارسات غير الشرعية التي يقترفها كثير ممن يلقبون أنفسهم رقاة ، وهم دجالون ومشعوذون، يستغلون جهل الناس وحاجتهم إلى الدواء، فيأكلوا أموالهم بالباطل، ويعبثوا بالأعراض، مشيرا إلى أن من بين هذه الممارسات غير الشرعية ” استخدام الطلاسم والتمائم وما استقذر من أنواع البخور ، والكذب على الناس بزعم الشفاء بالدماء وأعضاء معينة من أبدان الطيور والحيوانات ، والعمل في الظلام، وخداع الناس بإطالة اللحي … بل هناك منهم من يدعي تسخير الجن، وحال هؤلاء أقبح لأنهم سقطوا في الجحود والعصيان”.
وإذا كانت الشريعة تجيز ممارسة الرقية وفق عدد من الشروط والضوابط التي سبقت الإشارة إلى بعضها، فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو ما طبيعة الأسباب التي تجعل الممارسين للرقية، والمتعاطين لها على حد سواء ، يحيدون عن الأغراض الشرعية التي أتت من أجلها، وينحون بها نحو ممارسات غير شرعية تثير الامتعاض والاستنكار وسط فئات عريضة من أفراد المجتمع؟
بل المثير للإستغراب أن عددا ممن يعتبرون أنفسهم “رقاة” تصدر عنهم مواقف وتصريحات، تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، حول قدراتهم على علاج الكثير من الأمراض النفسية، وحتى العضوية. و الأدهى من ذلك أن من هؤلاء الرقاة من تجرأ على القول بأن “مهمته تبدأ عندما يعجز الطب عن إيجاد علاج للمريض الذي يلجأ الراقي”، حيث تدعو مثل هذه التصريحات لأكثر من وقفة للتأمل في محتواها، وتحليل خلفياتها، وسندها العلمي أو الخرافي، وهذا ما انكبت عليه العديد من الدراسات والأبحاث المصنفة في خانة العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة.
وفي هذا الصدد، يؤكد الدكتور محسن بنزاكور، الأخصائي في علم النفس الاجتماعي أن “ضرورة تكيف أفراد المجتمع المغربي مع الظروف الحياتية الجديدة، التي أفرزتها التحولات الناتجة عن الطابع الانتقالي الذي فرضه التغيير الاجتماعي الحاصل في المجتمع المغربي، ليس بالأمر السهل. وبالتالي فإن هناك عدة مشاكل تطرح حتما في هذا السياق تترجم عن طريق اضطرابات نفسية وسلوكية ، وإخفاقات حياتية تعزى في مجملها إلى حالات المس والسحر والعين في غالب الأحيان، حتى صار يعتقد أن كل من برأسه صداع أو من في عينه احمرار فهو ممسوس ، ومن في بطنه وجع فهو مسحور، ومن فشل في مشروع ما فمرده إلى العين… ومن هنا يفهم السبب الرئيسي الدافع بنسبة كثيرة من الناس في المجتمع المغربي إلى التماس العلاج بالرقية”.
وأشار في اتصال مع ” و م ع ” إلى أن “الدراسات والأبحاث التي بحثت في علية المرض والشفاء التي تحدثها الممارسات العلاجية التقليدية، أفضت إلى أن المرض والشفاء ليسا في حقيقتهما إلا تصورا ذهنيا ، وأن الأسباب المادية التي يتصور الطب الحديث على أنها تحدث بالمرض، ما هي في الحقيقة إلا نتيجة عرضية للتصور الذهني الذي يتبناه المريض حول ذاته”.
وأضاف الأكاديمي بن زاكور أنه “ما من إنسان يملك في داخله اعتقادا نحو موضوع ما ، إلا ونرى هذا الاعتقاد أو هذا الموضوع، يصبح عنده ضرورة تعلو على الحياة نفسها. وبمقدار ما يتوفر هذا الشعور في نفس أي إنسان، بقدر ما يؤثر عليه هذا الموضوع تأثيرا عجيبا…فإذا استعرضنا قضية حدوث الشفاء في مجرد زيارة ضريح من الأضرحة، أو سماع تعويذة من التعاويذ التي تستخدم في الرقية، فعلى ضوء هذا المقياس يتضح أن عملية الشفاء لم تحدث بالوسيلة المستعملة في العلاج بحد ذاتها، وإنما حدثت عن طريق تأثير الاعتقاد بالوسيلة، وانعكاسه على الداخل فيحدث الشفاء المطلوب بطريقة لا إرادية”.
أما من الناحية النفسية العلمية ، فإن دلالة الرقي والتعاويذ العلاجية التي يستعملها المعالجون التقليديون ، ومن ضمنهم الرقاة، هي “عملية تفريج للمكبوتات ( كاتارسيس) المتراكمة في اللاوعي، والتي تنخر جسد المريض. ويصبح هذا التفريج ممكنا من خلال جو تلاوة تلك الرقى والتعاويذ العلاجية الإيحائية التي تصد مشاعر الإثم المسؤولة عن كبت الرغبات والنزوات ، ويحل المعالج الراقي بسلطته محل الأنا الأعلى للمريض من خلال عملية سيطرة نفسية عليه” ، وهذا هو رأي المحلل النفسي العربي المعروف ، الدكتور مصطفى حجازي، كما سطر ذلك في مؤلفه المرجعي : “الإنسان المهدور ، دراسة تحليلية نفسية اجتماعية”، الصادر عن المركز الثقافي العربي سنة 2005.
وعلى الرغم من التقدم العلمي المحرز، سواء بالنسبة للعلوم الطبية الدقيقة أو بالنسبة للتحليل النفسي وباقي فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، في تفسير ظاهرة اللجوء للرقية أو غيرها من الظواهر الأخرى المستعملة في التماس العلاج للأمراض النفسية والعضوية، فيبقى الإقبال على هذه الممارسات المفعمة بتجليات متعددة من الجهل والتخلف لافتا للانتباه في المجتمع المغربي في مختلف الأوساط ، بنسب مختلفة ، بما في ذلك الفئات التي نالت حظا وافرا من العلم والثقافة ، أو الفئة التي يجوز أن تنعت ب”الصفوة” وسط المجتمع.
واعتبارا لذلك، فإن التنامي المضطرد لظاهرة التماس العلاج بالرقية، يسائل الكل هل مرده إلى جهل أو قصور في اهتمام أفراد المجتمع المغربي بالصحة النفسية المرتكزة على ضوابط العلم الحديث، أم أن الأمر يعود إلى الفراغ القانوني الذي يساعد على الانتشار المتسارع ، ودون رادع، ل”مهن” أصبحت تشكل منافسا حقيقيا لبعض التخصصات الطبية والعلاجية المنظمة والمقننة، أم أن المسألة مرتبطة بقصور أو فهم مغلوط لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحة… كل هذه المسببات وغيرها تدعو إلى فتح نقاش مسؤول ورزين يفضي إلى تحصين الصحة البدنية والنفسية لمختلف فئات المجتمع المغربي.