التناوب والأسئلة المعلقة..

admin
كتاب واراء
admin13 يوليو 2022آخر تحديث : منذ سنتين
التناوب والأسئلة المعلقة..

 جمال المحافظ

شيء إيجابي أن ينتبه باحثون وإعلاميون الى تجربة ما اصطلح عليه في الأدبيات الإعلامية والسياسية في المغرب بـ «التناوب التوافقي» الذي دشن عمليا في الـ 14 من آذار/ مارس 1998، عندما استقبل الراحل الحسن الثاني (1929- 1999) في القصر الملكي في الرباط، الحكومة رقم 25 برئاسة الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعارض عبد الرحمن اليوسفي (1924- 2020) بعدما تصدر الحزب الانتخابات التشريعية التي جرت في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1997 بحصوله على 57 مقعدا من أصل 319 مجموع مقاعد مجلس النواب.
آنذاك، وصف تعيين الحكومة الجديدة، التي ضمت سبعة أحزاب، منها ثلاثة من المعارضة وأربعة من الأحزاب كانت تسميها الصحافة بـ»الإدارية»، ووزراء السيادة بـ «الحدث التاريخي» الذي قد يشكل فرصة لإدخال إصلاحات عميقة تمكن البلاد من الدخول في مرحلة جديدة تؤهلها لتحقيق انتقال ديمقراطي يفرز خريطة سياسية حقيقية بواسطة انتخابات حرة ونزيهة.
وفي ظل النقص الحاصل في مقاربة هذه التجربة السياسية، التي نقلت المعارضة الى تدبير الشأن الحكومي، يلاحظ أن الكتابات حولها غالبا ما تصطدم بتغليب الجوانب الذاتية على الموضوعية خاصة في التعاطي مع سياقاتها الوطنية والدولية، وتحليل حصيلتها وتقييمها ومقارنتها بالتحولات التي رافقتها ولما سيأتي من بعدها. كما يزيد من هذه الصعوبات كون السياسيين كثيرا ما «يفضلون ألا يخطوا كتاب حياتهم بالمطلق، وحتى إذا كتبوه – وهذا في أحسن الأحوال- فإنهم يكتبونه مبتورا، وهو ما يجعل كثيرا من الأسرار والتفاصيل، التي تكون مفيدة في إماطة اللثام عن أحداث ووقائع معينة، تدفن معهم»، كما أورد كتاب «أوراق من زمن السياسة: اليوسفي كما عشناه» لمحمد حفيظ وأحمد بوز.
لكن هذا التناوب، وإن شكل مرحلة تاريخية من الانفراج بين فرقاء الحقل السياسي، غير أنه «لم يكن تلك العصا السحرية التي تحقق المعجزات، فقد خلق ارتباكا للديمقراطية، وأسقط الأقنعة، عن عقود عديدة من تاريخ جرى التكتم عنه، لم يتح للناس أن يتعرفوا عليه جيدا، أو يتصالحوا وإياه»، كما كتب بيير فيرموريين في مؤلف «تاريخ المغرب منذ الاستقلال».
في المقابل «كان هذا التناوب مرغوبا فيه وفي الوقت نفسه كان يُخشى منه»، كما نقل عبد العزيز النويضي، في كتابه الأخير «مذكرات مستشار للوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي دروس من تجربة التناوب وما بعدها»، عن عبد الرحمن اليوسفي قوله أمام خبراء أمريكيين عام 2003.
إذا كانت هذه التجربة السياسية تحمل بين طياتها الكثير من خصوصيات المغرب السياسي بمختلف معاركه، وصراعات قواه الحية مع ما هو سائد، فإن التناوب رغم ذلك «لم يذهب بعيدا في عملية تأسيس القواعد المانعة لإمكانية التراجع عن الإصلاحات المحتملة ومكاسبها، الأمر الذي لا يمنع من أن يظل المجال السياسي المغربي فضاءً لحصول ممكنات متناقضة»، كما سجل كمال عبد اللطيف في مؤلف «العدالة الانتقالية والتحولات السياسية».

 كتابة المذكرات، وإن كانت قليلة حول مجريات التاريخ السياسي الوطني، فهي تعتمد على القراءة الانتقائية للماضي

بيد أن ما يغرب عن الأذهان، بعد انصرام هذه المدة الفاصلة عن قيام «التناوب التوافقي» الذي توقف قطاره سنة 2002 بعد «الخروج عن المنهجية الديمقراطية»، أن بناء الديمقراطية كتعبيد الطريق، إذ أنك حين تفتح طريقا، ستتيح التواصل بين الناس، وكذلك الأمر حين توجد مؤسسات ديمقراطية مسلم بها، فإنها تكون أداة حوار وتبادل بل تضامن، حسب ما ذهب إليه محمد العربي المساري (1936- 2015) وزير الاتصال في النسخة الأولى لحكومة عبد الرحمن اليوسفي، في مؤلفه الموسوم بـ»صباح الخير.. للديمقراطية، للغد». إلا أن زمن التناوب وإن كان قد عرف نوعا من الدينامية، إلا أن العلاقة مع الصحافة، ظلت في هذه المرحلة مجالا للتوتر بين الحكومة والإعلام.
فالقبول بقيادة تجربة التناوب كان في الأصل «مخاطرة أُخذ فيها بالحسبان المصلحة الوطنية على حساب المصلحة الحزبية، فإن هذه التجربة انتهت، بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها، أي التوجه نحو الديموقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام..» كما جاء في المحاضرة التي ألقاها ربان حكومة التناوب عبد الرحمن اليوسفي في بروكسيل عام 2003.
وبعد مرور 12 سنة من تلك المحاضرة سيأتي الإعلامي محمد الطائع، ليدبج في كتابه «التناوب الديمقراطي المجهض» إن هذا التناوب الذي غامر من أجله اليوسفي بكل رصيده التاريخي ومصداقيته، في أفق انتقال ديمقراطي شامل وهادئ في المغرب، «فشل وأجهض مع سبق الإصرار والترصد» محملا المسؤولية في ذلك الى «جيوب المقاومة» التي «كانت تعمل على تقويض ميثاق التوافق التاريخي بين المعارضة الاتحادية والقصر»، وكذلك لــ»جزء كبير من أطر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذين ساهموا بدورهم في تقويض التجربة، وتيئيس المغاربة من السياسة والحزب…».
وبالعودة الى الكاتبين الجامعيين حفيظ وبوز فقد اعتبرا في مؤلفهما: «أن اليوسفي لا يقدم أي تفسير واضح لفشل تجربة التناوب (…) وفضل اللجوء إلى التلميح وتفادي التفاصيل…» علاوة على أنه «تطرق للإكراهات التي واجهت حكومة التناوب، لكنه تحاشى تسمية الجهات التي عرقلت إصلاحات حكومته». واستنتجا بالخصوص ما وصفاه بـ»البياضات في مذكرات اليوسفي».
غير أن كتابة المذكرات، وإن كانت قليلة حول مجريات التاريخ السياسي الوطني، تعتمد على القراءة الانتقائية للماضي، في الوقت الذي أضحت الكتابة التاريخية، تعرف تجديداً منهجيا، عبر الرجوع إلى الأسئلة ونقط الاهتمام وتأويل المعلومات، وهو ما يتطلب القدرة على «تدوير الحقيقة التاريخية»، وإعادة إنتاجها بعيدا عن الطرح الإيديولوجي لمختلف أوجه الصراع، ودمج «التاريخ المتاح» بـ»التاريخ السري».
وعلى خلافهما وصف عبد العزيز النويضي جوانب من كتابهما «أوراق من زمن السياسة: اليوسفي كما عشناه» بأنها «استعراض قاس» لتجربة اليوسفي خاصة على مستوى التعامل مع الشبيبة الاتحادية وفي تدبير شؤون الحزب وفي خيار المشاركة في الحكومة. وكتب المؤلف ذاته إن صاحب أطروحة الخروج عن المنهجية الديمقراطية « عاش مأساة مع أصدقائه ومع خصومه السياسيين» ملاحظا أن «ثقافة غير ديمقراطية بقيت تهيمن على سلوك أغلب النخب حتى بعد دستور 2011».
«إذن انتهت تجربة التناوب، ولا شك أنها خدمت البلاد، لكنها يقينا لم تخدم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (…) الكل استفاد سوى الاتحاد، وان استفاد بعض أعضائه، وحتى هذه الاستفادة خسارة…» كما دون عن هذه التجربة المفكر والمؤرخ عبد الله العروي في كتابه «خواطر الصباح» والذي اعتبر فيه بالخصوص «أن تجربة التناوب، تركت على حالها حتى تبرهن على محدوديتها ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي..».
وهذا على ما يبدو يزكي القول إن الطبقة السياسية في المغرب لم تنفصل بصورة نهائية عن الماضي وانعكس ذلك في مواصلة المحافظة على نفس أسلوب الحياة والسياسة، فجو الصراع والعداوة المبالغ فيها بين جماعات النخبة يؤديان منذ عقود إلى تماسك عناصرها، وليس إلى تفتيتها كما ذهب اليه الباحث الأمريكي جون واتربوري في كتابه «أمير المؤمنين ــ الملكية والنخبة السياسية» الذي أوضح فيه أن «توازن انقسام النخبة يتم بفضل الدفاع عن المصالح المشتركة، وتوحد العلاقات الاقتصادية ما تفرقه الاختلافات السياسية الآنية، مما يجعل سلوك النخبة يعكس سلوك مجموع المجتمع المغربي».
إلا أنه على الرغم من اختلاف السياقات التي أطرت كتاب واتربوري (الذي هو في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه سنة 1968) والتحولات التي عرفتها البلاد، فإن عددا من الأسئلة تظل مشروعة وفي مقدمتها هل تغير الوضع بتغير الفاعلين ونمط الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية؟
إعلامي وباحث أكاديمي من المغرب

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.