تستوقفنا ونحن في النصف الثاني من عام 2020، حقيقة أن هذا العام كان قد حدّده الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لتحقيق مشروع “القدس الكبرى”، والذي انطلقت عجلته إلى الأمام دون تراجع بعد عام 1967 مباشرة.
وسنحاول في هذه الورقة أن نقرأ المناورات والمؤامرات المتعددة التي تستهدف تصفية القضية والمشروع الوطني الفلسطيني، من صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدة الحكم، وإعلانه القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، إلى إعلان ما يُسمى بـ “صفقة القرن”، وأخيراً وليس آخراً خطة الضم التي أعلن الاحتلال الإسرائيلي نيته تنفيذها على المستوطنات وغور الأردن وشمال البحر الميت. وذلك سعياً منا لفهم دلالات توقيت وأهداف هذه الأحداث وعلاقتها بمشروع “القدس الكبرى”.
القدس ( 1967-2020)
أطلق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وهضبة الجولان عام 1967، ما يُسمى بمشروع “القدس الكبرى”، وشرعت حكومة الاحتلال بوضع البرامج والخطط اللازمة لتحقيقه، محددةً العام 2020 ليكون العام الأخير لإنجاز هذا المشروع.
ويقوم مشروع “القدس الكبرى” على نقل حدود القدس إلى ما وراء الجبال المحيطة بالمدينة ما بين منطقة قلنديا شمالاً، ومنطقة بيت لحم جنوباً، وما بين مستوطنة “معاليه أدوميم” شرقاً، و مستوطنة “معاليه هعشميا” غرباً بحيث تكون المساحة الكلية نحو 200 ألف دونماً.
مارست حكومة الاحتلال سياسة التضييق والتهجير القسري على السكان الفلسطينيين الأصليين، وقامت بوضع خطط استقطابية تشجيعية لهجرة المزيد من المستوطنين إلى القدس، وذلك في سبيل ترجيح كفة التوازن الديمغرافي لصالح المستوطنين اليهود، وقد سجّل التواجد الاستيطاني السكاني في مدينة القدس نمواً ملحوظاً، حيث ارتفع عدد المستوطنين الذي كان لا يتجاوز 200 ألف في العام 1967، إلى قرابة مليون مستوطن في العام 2020.
على مستوى الأراضي، فقد تسارعت وتيرة مصادرة الأراضي التي تخدم هذا المشروع، بحيث صادرت السلطات الإسرائيلية منذ العام 1967 لغاية العام 2020، ما يزيد عن مليونين ونصف دونماً، وبذلك أحكمت قبضتها على 45% من إجمالي مساحة الضفة الغربية. وكل هذا كان يتم بغطاء قانوني استعماري، حيث شرعت قوانين مثل: قانون مصادرة الأراضي “للمصلحة العامة”، وقانون التنظيم والبناء للحد من النمو العمراني الفلسطيني، وقانون أموال الغائبين وغيرها من القوانين التي هدفت لتسهيل تنفيذ مشروع “القدس الكبرى”.
ترامب وإعلاناته
لم يلبث أن ينهي الرئيس الأميركي دونالد ترامب عامه الأول في الرئاسة، حتى أعلن القدس عاصمة موحدة لـ “إسرائيل”، و شرع بتاريخ 14 أيار/ مايو 2018 بنقل السفارة الأميركية إلى القدس. كما صادقت الحكومة الإسرائيلية على مشروع لتهويد المناهج التعليمية في القدس بدعم وموافقة صريحة من الرئيس ترامب. ووفقًا لتقرير صادر عن “المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان” بتاريخ 18 حزيران/يونيو 2016، فإن الحكومة الإسرائيلية رصدت أكبر ميزانية لمدينة القدس منذ احتلالها.
مما لا شك فيه أن رئاسة ترامب تعني الكثير للكيان الإسرائيلي، فقد ساعدت في خلق أعباء ثقيلة على كاهل القيادة الفلسطينية عبر قضيتي التعليم ورواتب الأسرى والشهداء، وعلى الرغم من أن نظرية المؤامرة غير مثبتة علمياً، إلا أن صعود ترامب إلى سدة الحكم في العام 2017 – ترامب الذي كان يركز على قضية نقل السفارة في دعايته الانتخابية، والذي تنتهي ولايته مع نهاية عام 2020 ( أي تاريخ إنجاز مشروع القدس الكبرى) – قد يثبت مع الأيام نظرية المؤامرة، وأن ترامب لم يأتِ مصادفةً، وإنما جاء في زمن محدد لتنفيذ مشروع محدد خططت له الحركة الصهيونية.
القدس في “صفقة القرن”
أعلن ترامب في شهر يناير من العام 2020 رسمياً عن تفاصيل ما يسمى بـ “صفقة القرن”، وبحسب الخطة الكاملة لهذه الصفقة والتي تداولتها مختلف وسائل الاعلام العالمية، فإنها تقضي بفصل الأحياء العربية ( مثل كفر عقب وشعفاط) عن بقية الأحياء في مدينة القدس. كما توجب بإخضاع جميع الأماكن المقدسة في القدس لنفس أنظمة الحكم الموجودة اليوم، وأن يستمر الوضع القائم في “جبل الهيكل” بحسب الخطة دون انقطاع.
القدس في مخطط الضم
في ظل تحديد الاستعمار الاستيطاني عام 2020 ليكون عام إنجاز مشروع “القدس الكبرى”، وما نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية حول دراسة المستوى السياسي بأن تكون البداية بضم مستوطنة (معاليه أدوميم) إلى القدس، وإعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تأجيل موعد الضم ( ضم مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن ومنطقة شمال البحر الميت) الذي حدّده سابقاً في الأول من شهر تموز/ يوليو 2020،فإن ضم مستوطنة معاليه أدوميم يبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً. حيث يبدو أن إعلان نتنياهو نيته للضم الكلي لم يكن عبثياً، فهو يعي جيّداً مخاطر هذه الخطوة في سياق ردّ الفعل الفلسطيني والدولي إلى جانب التصادم مع الأردن، وخطوته هذه تأتي في سياق لعبة “رفع سقف التوغّل”، بحيث سيحاول التودّد للمجتمع الدولي عبر تخفيض سقف التوغّل إلى حد ضم “معاليه أدوميم” حالياً، كونها تعتبر القطعة الأهم في مشروع “القدس الكبرى”.
تعتبر “معاليه أدوميم” من أكبر مستوطنات الضفة الغربية، وضمّها من شأنه أن يعزل القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني، من الناحية الشرقية، وفصل شمالي الضفة الغربية عن جنوبها، وهكذا يكون مشروع “القدس الكبرى” قد شارف على الانتهاء، بحيث يمكن الشروع في تطبيق الضم بعدها تدريجياً على مراحل، ليشمل مستوطنات شمال القدس ( كوخاف يعقوب وبسجوت وجيفات زئيف) والمستوطنات الغربية (معاليه هعشميا، وكآدم وعلمون) إضافة إلى المستوطنات الجنوبية التي تقع في بيت لحم ( جبل أبو غنيم وجيلو).
خاتمة
لا يمكن فصل تتابع الأحداث منذ بداية العام 2020، من إعلان تفاصيل ما يُسمى بـ “صفقة القرن”، ومخطط الضم الإسرائيلي عن مشروع “القدس الكبرى” الذي حدّد الاحتلال عام 2020 على أنه عام المشروع الأخير.
ولأن السيطرة على العاصمة في أي حربٍ كانت، هي المفتاح الرئيسي للانتصار في المعركة، فإن القدس ستبقى الهدف الأول والرئيسي للاحتلال الإسرائيلي. ومن هنا تقع على عاتق المنظومة الرسمية الفلسطينية مهمة تكثيف الدعم السياساتي للقدس، بما في ذلك تعزيز صمود المقدسيين بالتوازي مع المواطنين والمزارعين في الأغوار – إن لم يكن بوتيرة أعلى – خصوصاً في المرحلة المقبلة التي تُنذر مؤشرات كثيرة بأنها ستشهد تصعيداً إسرائيلياً كبيراً على العاصمة الفلسطينية، وأهلها.
فادي أبوبكر
كاتب وباحث فلسطيني
يمكن التواصل معه على: