د.فؤاد بوعلي
يعد مفهوم القوة الناعمة من المفاهيم المتداولة في تحليل السياسات الخارجية للدول والأنظمة، حيث ييسر الاصطلاح فهم طبيعة الممارسة السياسية والعلاقات بين الدول. فمنذ استعماله من طرف جوزيف ناي باعتباره يحيل على أحد مصادر قوة الاستتباع غير القهرية، شرعت الدول على اختلاف أنظمتها في الاهتمام بمنطق القوة الناعمة وضرورة دمجها في الاستراتيجيات الدولية وتدبير العلاقات مع دول العالم المختلفة. وقد فطن علماء السياسة وإن بشكل متأخر إلى دور اللغة في التأثير على الشعوب والدول وفرض الاستتباع اللين. إذ يتجاوز استعمال اللغة الدور الوسائطي في التواصل مع الآخر، أو تبليغ الأفكار والمعاني، أو التعبير الهوياتي الضيق بل عدت وسيلة من وسائل توجيه السياسات العامة للدول واختراق جدار الثقافة الوطنية. ويقدم لنا النموذج الأمريكي صورة واضحة لكيفية استخدام اللغة في النفاذ إلى عمق المجتمعات والتأثير على الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة. فإضافة إلى الدبلوماسية العامة والنفوذ السياسي، والسيطرة الاقتصادية والتكنولوجية والإعلامية… تعمد إلى تصدير ثقافتها ونمطها الحياتي عبر بوابة اللغة الإنجليزية ومراكزها الثقافية . وما تقوم به فرنسا في دول إفريقيا والمغرب العربي، وإسبانيا في أمريكا اللاتينية من خلال جعل اللغة بوابة الولوج إلى الاقتصاد والسياسة والتحكم في سيادة الدول دليل على هذا الدور الناعم.
وقد وعت العديد من الدول العربية، وإن بشكل متأخر، بقيمة اللغة والثقافة العربيتين في احتواء النخب وتوظيفها في المشاريع التي تخدم الإيديولوجيا المعتمدة من قبل أنظمتها وتوجيهها نحو الدفاع عن أطروحتها في الصراعات الجيوستراتيجية. لذا يعرف العالم العربي حركية غير مسبوقة في الاهتمام باللغة العربية من خلال مبادرات ومشاريع ومؤسسات تشرف عليها الحكومات والدول المختلفة. فجل الدول العربية المنضوية تحت لواء الجامعة العربية غدت متوفرة على مجامع اللغة العربية أو مجالس عليا، كما سارعت إلى إطلاق جوائز بقيمة مالية خيالية، فمن جائزة الكتاب إلى أخرى في الترجمة فالرواية فالشعر بأصنافه المختلفة، إلى القراءة، وصولا جوائز اللغة العربية ودراساتها المتنوعة، إضافة إلى المبادرات المختلفة من تقارير رصدية ومشاريع علمية، ومؤتمرات دولية وفعاليات احتفالية، تجعل منها مرجعا في النهوض باللغة العربية . ويتيح هذا الأمر زيادة على تشبيك النخب عبر العالم ، إمكانية النفاذ إلى مختلف الدول الإسلامية والأجنبية من خلال مشاريع تعليم العربية، ومنحها شرعية الحديث باسمها.
وكما غاب المغرب عن مجموعة من الملفات عندما سلم قيادته لنخبة مرتبطة عضويا وثقافيا بباريس يغيب عن المسألة اللغوية التي منحته عبر تاريخه عمقا استراتيجيا من خلال علاقته بالعالم العربي أو بأعماق إفريقيا أو أوربا . إذ تثبت الدراسات المتناسلة دور المغاربة في نشر الإسلام ولغة القرآن في إفريقيا، ومعهما قدموا العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والزوايا الصوفية. ولمن يفهم دواخل التدين بالمغرب يفهم عمق العلاقة الروحية التي تجمع أهل إفريقيا جنوب الصحراء بالمغرب ومشايخه. كما يحفظ العالم للمغرب دوره في الدفاع عن العربية وترسيمها في المنظمة الأممية. ويكفي التذكير بأن الملك محمد الخامس هو أول من استعمل اللغة العربية في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1959، وأن محمد الفاسي هو الذي نجح في إدخال اللغة العربية كلغة رسمية في منظمة اليونيسكو، لما كان يشغل منصب رئيس المجلس التنفيذي للمنظمة في مطلع السبعينات، وأعانه على ذلك الرجل الثاني في اليونيسكو أنداك الدكتور المهدي المنجرة.
كل هذه الأوراق الاستراتيجية بدأت تتساقط مع تلكؤ سادة القرار السياسي في إخراج سلطة مؤسسية للغة العربية في المغرب، والغياب الرسمي عن الاحتفاء العالمي باللغة العربية، والتهميش الدائم للغة الضاد في مشاريع الدولة، بل عدم الاهتمام بحضور المؤتمرات العربية المتخصصة، مما يؤدي حتما إلى إغفال عنصر محوري في قوة المغرب التاريخية والاستراتيجية. فاللغة العربية كانت على الدوام جوهر قوة المملكة الناعمة التي غيبتها الحكومات المتتالية.