الصعوبات والحواجز القانونية المتعددة التي وضعها المشرع، يبدو أن زواج القاصرات لا يزال يفرض وجوده في المغرب.
ويبدو وكأننا أمام شكل من أشكال التطبيع مع هذه الظاهرة التي تتحول في الغالب إلى قصص درامية بل مأساوية في بعض الأحيان، في وقت تصطدم فيه دعوات المطالبة بإلغاء أو تشديد الخناق على زيجات القاصرات بالقيود المجتمعية والثقافية الصارمة التي تزيد من شقاء فتيات حكم عليهن بلعب دور زوجات.
وشكل الحد من زواج القاصرات أحد الأهداف الرئيسية لتعديل مدونة الأسرة، وذلك في أفق القضاء على ظاهرة تمس بحقوق الطفل، وتتسبب في مآسي اجتماعية وعواقب نفسية وجسدية للقاصر وجب التصدي لها، غير أن الواقع ما يزال يؤكد أن زواج القاصرات ممارسة تقاوم التغيير، وتثير القلق، ليطرح السؤال: من يتحمل المسؤولية؟ هل النص القانوني الذي فتح باب الاستثناء أو الواقع الاجتماعي والثقافي الذي يرسخ زواج القاصرات بدل الانتفاض عليه.
ورغم أن تعديل مدونة الأسرة سنة 2004 كان حدثا مهما، بل وقفزة نوعية في مجال ضمان حقوق الطفل على الخصوص، والذي حدد سن الأهلية للزواج في 18 سنة، ذكورا وإناثا، تماشيا مع الاتفاقيات الدولية، إلا أنه فتح باب الاستثناء عبر ضوابط وشروط معينة.
وقد أثبتت الممارسة أن هذا الاستثناء الذي تمنحه المادة 20 من مدونة الأسرة للقاضي المكلف بالزواج بالإذن للفتى أو الفتاة بالزواج دون سن الأهلية، تحول إلى “قاعدة” في الواقع المعاش، كما يؤكد ذلك عدد من الفاعلين الحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، الذين يطالبون بإخضاعه لتعديل يكون أكثر صرامة من عناد الواقع.
وبلغة الأرقام، وحسب إحصائيات وزارة العدل، فإن نسبة تزويج القاصر انخفضت بنسبة 9,72 في المئة سنة 2016، حيث بلغت 27 ألف و205 زيجات، لتواصل انخفاضها سنة 2018 بنسبة 9,13 في المئة بما مجموعه 25 ألف و514 حالة زواج، إلا أن هذا الانخفاض يبقى غير كاف بالنظر للعدد الكبير لزواج القاصرات المسجل سنويا.
إلغاء أو تأطير زواج القاصرات؟ الإجماع يبدو بعيد المنال…
في هذا السياق، تقول السيدة أمينة أفروخي، رئيسة قطب النيابة العامة المتخصصة والتعاون القضائي، إن النقاش المجتمعي الدائر حول هذا الموضوع أفرز اتجاهين، أو مقترحين، الأول يطالب بإلغاء ونسخ مقتضيات المواد 20 و21 و22 من مدونة الأسرة، أي إلغاء استثناء الزواج دون سن الأهلية، فيما يطالب الثاني بتحديد سن أدنى لزواج القاصر.
وأوضحت السيدة أفروخي، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن المدونة حددت سن الزواج في 18 سنة واعتبرته هو المبدأ وكان الهدف من ذلك هو الحد من ظاهرة زواج القاصر، ذكورا وإناثا، إلا أن الواقع يؤكد أن عدد الزيجات يبقى مهما ومقلقا، الأمر الذي جعل رئاسة النيابة العامة تولي أهمية بالغة لهذا الموضوع، وهو ما يتجلى من خلال إصدارها لدورية هامة خلال شهر مارس 2018، تحث من خلالها قضاة النيابة العامة على تفعيل الصلاحيات المخولة لهم قانونا للحفاظ على حقوق القاصرات ومصلحتهن الفضلى، وعدم التردد في معارضة طلبات الزواج التي لا تراعي هذه المصلحة.
واعتبارا لكون زواج القاصر ظاهرة يتداخل فيها الاقتصادي بالثقافي والاجتماعي، ترى المسؤولة القضائية أنه من الضروري التحسيس بخطورة هذه الظاهرة وتوعية المجتمع بأن تزويج القاصر يعد انتهاكا ومسا بأبسط حقوق الطفل وهو الحق في الصحة الجسدية والنفسية، والحق في التعليم الذي يهيئه لبناء حياة كريمة، مؤكدة أن المكان الطبيعي للطفل هو المدرسة وبين أسرته.
وبعدما أكدت أنه في غياب الوعي بخطورة الظاهرة، لن تكفي النصوص القانونية وحدها للقضاء عليها، سجلت السيدة أفروخي أن زواج القاصر حاضر في الوسط القروي كما في الوسط الحضري، مبرزة أن الإحصائيات التي ترد على النيابة العامة من المحاكم تكشف أن الظاهرة لم تعد حكرا على الوسط القروي، بل إن المدن الكبرى هي الأخرى تشهد هذا النوع من الطلبات، و”بالتالي لم نعد نتحدث عن الظاهرة من منطلق الوسط القروي والوسط الحضري”.
نحو التركيز على التعليم والتوعية…!
واعتبرت السيدة أفروخي أنه يتعين التركيز على التحسيس والتوعية وإيلاء الأهمية لمسألة التمدرس، وخصوصا تمدرس الفتيات واعتباره حقا أساسيا وليس رفاهية، بالإضافة إلى النهوض بنموذج تنموي يأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل منطقة واحتياجاتها.
وخلصت إلى أن المقاربة الأنسب هي التي تأخذ بعين الاعتبار الظاهرة في شموليتها أي الظروف السوسيولوجية والاقتصادية والقانونية، فالأمر لا يرتبط بالجانب القانوني فحسب، وإنما هناك العديد من العوامل أو الأسباب التي تساهم في استمرار الظاهرة، منها ما هو اقتصادي وثقافي واجتماعي وديني كذلك، “فالنص القانوني لا يكفي لوحده لتغيير واقع مجتمعي ترسخ لمدة زمنية طويلة ويتداخل فيه الثقافي بالديني والاجتماعي”.
المتتبع لهذا الملف يدرك جيدا أنه كان للمجتمع المدني بمختلف توجهاته السبق في التوعية بخطورة الظاهرة وضرورة مواجهتها بكل الوسائل المتاحة، وفي مقدمتها دعوة المشرع إلى التدخل بشكل حاسم واستعجالي من خلال تعديل النص القانوني للحد من انتشارها.
وهكذا، وفي إطار حملاتها الترافعية أمام قصور المقاربات التحسيسية في الحد من ظاهرة زواج القاصرات، تقدمت هيئات مدنية بمقترحات قوانين لتغيير وتتميم مدونة الأسرة، تؤكد على ضرورة تقييد السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي، وخاصة عبر التنصيص صراحة على إلزامية الخبرة الطبية والبحث الاجتماعي.
فتقييد السلطة التقديرية لقاضي الأسرة يشكل في نظر العديد من المهتمين بالملف، خطوة انتقالية في أفق إغلاق باب الاستثناء.
وفي هذا الإطار، قالت السيدة وفاء بن عبد القادر، رئيسة جمعية كرامة لتنمية المرأة، في تصريح مماثل ” إن الجمعية ترى أنه من الضروري، ومن الأولويات الواقعية، كمقاربة حمائية، السماح المشروط بزواج القاصرات، إلى حين نضوج رؤية تربوية وتنموية، تمكن القاصرات من جميع الحقوق .آنذاك نقول لا للاستثناء، لا لزواج القاصرات”.
ولئن كانت الظاهرة تستدعي تدخلا مستعجلا وحاسما من قبل كافة المتدخلين للحد منها، ولاسيما على المستوى التشريعي، فإن فاعلين آخرين يحذرون من كون خيار إلغاء زواج القاصر سيكون محفوفا بالمخاطر وقد يؤدي إلى بروز ظواهر أخرى للاحتيال على القانون كزواج الفاتحة والزواج العرفي.
*عن المجلة الشهرية “باب”