لماذا فقد المغاربيون ثقتهم بالانتخابات؟

admin
كتاب واراء
admin25 ديسمبر 2019آخر تحديث : منذ 4 سنوات
لماذا فقد المغاربيون ثقتهم بالانتخابات؟

نزار بولحية

الديمقراطية في العالم بأسره في أزمة، لكن ما الذي جعل وباء فقدان الثقة في الانتخابات يتفشى بسرعة في المنطقة العربية، التي كانت الأكثر استعدادا لها؟ أليس لافتا أن ينطبق ذلك، ولو بتفاوت على كل الاقتراعات التي أجريت وتجري في المغرب الكبير؟ لقد صار واضحا أنه لم يعد فارقا أن تستقر أو تصعد، أو تهوي، أو تكسب مرة بأربعين أو مرة بستين، أو حتى بثمانين في المئة من الأصوات. فآخر ما يشغل بال المغاربيين هو نقص أو زيادة الثقة، أو حتى ارتفاع أو انخفاض نسب المشاركة في اقتراعاتهم. بل ربما قد يكون آخر ما يؤرق الفائزين في تلك الانتخابات، مهما كان شكلها ولونها وطبيعتها هو المزاج العام ومشاعر الناس نحوها، ثم الارقام الأصلية التي تخلفها.
لقد اعتاد الجميع على استخدام الصناديق كحبات أسبرين أو مسكنات لخلافاتهم وصراعاتهم. فمن يستطيع اليوم أن لا يقول عندما ينجح في الانتخابات أنه ديمقراطي وشعبي للنخاع؟ ألا تعطي الانتخابات الانطباع الخادع بذلك؟ ها هو الرئيس الموريتاني السابق مثلا، الذي اختار خلفه ورشحه بدلا منه، يشتكي اليوم من أن صوره تزال من مقر الحزب الذي أسسه وتستبدل بصور الرئيس الجديد، وكأنه صار الضحية بدلا من الشعب الموريتاني، الذي انطلت عليه مسرحية التداول. ثم ها هو الرئيس الجزائري يقدم بدوره طلبا ثوريا لشعبه لاستبدال الفخامة بالسيادة، ويقول لجزائريين لا تنادوني من هنا فصاعدا بفخامة الرئيس، بل فقط بالسيد الرئيس. ثم ها هم التونسيون يسمعون الرئيس الثوري الذي انتخبوه يصيح فيهم في البلدة، التي كانت مهد الثورة ويقول لهم إن هناك مؤامرة وستتصدون لها، ولن تمر عليكم هذه المهاترات، لأنكم تعرفونهم بالاسم، ومن يقف وراءهم في الظلام.
إن السلسلة تبدو واحدة، فقد أجهض المسار نحو الصناديق مرة بعد أخرى في ليبيا، رغم انه لن يكون مستبعدا أن يوضب كل شيء هناك من جديد، بعد أن تكتمل طبخة الإرادات الخارجية، وتستوي بالكامل ليستأنف مجددا وفي الاتجاه الذي يحدده الطرف الأقوى، وفصل في موريتانيا على المقاس، وأخضع في الجزائر لإرادة العسكر تحت مبرر الخوف من فراغ دستوري، فيما أبقي داخل حدود اللعبة في المغرب ليكون وسط كل ذلك استثناء هجينا لتونس في الإقليم. لكن خلطة الانتخابات المغاربية المتعددة الأصناف والمذاقات تواجه اليوم مأزقا حقيقيا، فهناك اكثر من مؤشر بات يدل على تزايد قناعة المغاربيين من طرابلس إلى نواكشوط، بأن السعي وراء صناديق الاقتراع لم يعد مجديا، بل صار نوعا من الوهم أو السراب المضلل، مثلما أن اعتقادهم في أن تلك الطريقة تبقى البلسم الشافي لكل ما يواجهونه من مشاكل وأزمات خطيرة بدأ يتدنى لأقصى حد. ألا تقول، على سبيل المثال، آخر استطلاعات أجريت في تونس، وهي المثال الانتخابي المشرق والناصع، أن اكثر من سبعين في المئة من التونسيين لم يعودوا متأكدين من أن بلدهم يسير بعد الانتخابات على الطريق الصحيحة؟

المغاربيون يريدون تغييرات سريعة وجذرية لواقعهم ويعتقدون أن الانتخابات هي النهاية، مع أنها ليست سوى بداية الطريق الصعب نحو الديمقراطية

قد يكون غريبا أن تتزعزع ثقة الناس أو يهتز اعتقادهم في ضرورة الحفاظ على آلية ديمقراطية لطالما نظروا لها بكثير من الإعجاب والانبهار، وهم يتابعون الاستحقاقات الانتخابية المتتالية في عواصم الغرب، عندما كانت أجيال وأجيال من السياسيين والحقوقيين داخل أوطانهم تناضل لأجل افتكاك الحق في النسج يوما ما على منوالها. ولكن كيف يمكن أن نفسر مثل ذلك النفور؟ وهل أن تلك الخيبة من ضيق أفق الانتخابات التي تلوح الآن، تعني أن الطرق المدنية والسلمية للتغيير الحقيقي داخل الدول المغاربية قد سدت تماما، ولم تعد ممكنة أو مجدية، وأن الشعوب لم تعد ترى أن إراداتها قد تجسم أو تختصر فقط كما يعتقد البعض في أصوات الناخبين دون غيرهم؟
قبل شهرين من الآن فتحت انتخابات تونس باب الأمل على مصراعيه ورآها التونسيون وباقي جيرانهم أيضا مثالا ناجحا لما يمكن أن يعد الوصفة السحرية للتغيير الهادئ والعميق في الوقت نفسه. فقد صعّد الناخبون ومن خارج المنظومة التقليدية، أستاذا جامعيا مغمورا بعض الشيء إلى أعلى هرم السلطة، مستبعدين زعامات وأسماء معروفة نافسته على المنصب، ثم أظهرت انتخابات البرلمان لاحقا صعودا لافتا لشخصيات وقوى عرفت بخطابها الثوري والإصلاحي. ولكن سرعان ما بدت الصورة أسابيع قليلة بعد ذلك في عيون كثيرين مشوشة ومثيرة لمخاوف على أكثر من صعيد، فقد أفاق التونسيون على صعوبة التحديات الكبرى التي تنتظرهم بعد الانتخابات، وأدركوا أنهم وبقدر ما كان مهما بالنسبة لهم أن يقولوا كلمتهم في اقتراع حر ونزيه وشفاف، فإن الأهم منه بقي ما سيحصل بعدها، وقدرة الشخصيات والأحزاب التي اختاروها على الفعل والإنجاز، وتحقيق ولو جزء من الطموحات والمطالب التي نادوا بها. وكان مشهد البرلمان التونسي في الاختبار العملي الأول لكل تلك الانتظارات مثبطا ومخيبا للآمال، فلم تعد الشتائم والاتهامات والاتهامات المضادة بين الكتل والأحزاب وحدها الخبز اليومي لجلسات مجلس النواب، بل تحول الأمر إلى ما يشبه سيركا من العجائب والغرائب، ليس أقل لوحاته شذوذا قيام كتلة حزب من أحزاب الفلول بتعطيل عمل المجلس واحتلال منصة الرئيس وحتى مقعده للاحتجاج على تصريحات رأتها مسيئة لها. لقد كانت الرسالة من وراء ذلك هي أن التعددية نقمة لا نعمة، وان التونسيين ليسوا جديرين إلا بالحزب الواحد الذي يفرض ما يسمونه هيبة الدولة ويجنبهم الانقسام والسقوط في الجدل العقيم. وربما ساد الاعتقاد نتيجة لذلك داخل بعض الأوساط، هو في أن الداء كان يكمن في الانتخابات لا في المنتخبين انفسهم.
ومثلما دقت الطبول قبل الانتخابات التونسية الاخيرة للدعوة المبطنة لمقاطعتها والترويج الإعلامي غير المباشر لانعدام الجدوى منها، فقد استغلت مشاهد البرلمان التونسي لزيادة منسوب القلق والغضب الشعبي مما اعتبر تصفية حسابات سياسية ضيقة، على حساب القضايا والأولويات الملحة للناس. ولم يكن هناك شك في أنه كان مطلوبا أن يصل صدى ذلك الجزائر، ويجعل الجزائريين يراجعون حساباتهم ومواقفهم لا من انتخابات تونس، التي كانت بالنسبة لهم المثال الذي يصبون لاتباعه، بل حتى لانتخابات الأمر الواقع التي فرضت عليهم، وصاروا بعدها أمام خيار محتوم وهو التعامل معها. لكن هل تتحمل الشعوب قسطا من المسؤولية عما حصل لها؟ ألم تكن نظرتها للانتخابات واعتقادها بأنها الحل السحري لمشاكلها هي السبب المباشر في شعورها الآن بالإحباط؟ ثم من أين أتى المنتخبون؟ وكيف يطلب منهم أن يكونوا ملائكة تحكم شعوبا من الشياطين؟ إن المشكل الحقيقي هو أن طاقة المغاربيين على تحمل الديمقراطية لم تعادل بعد طاقتهم على تحمل الاستبداد. فهم يريدون تغييرات سريعة وجذرية لواقعهم مع أنهم لا يقدمون أو لا يبذلون الجهود و التضحيات المطلوبة لذلك. فمعظمهم يعتقد أن الانتخابات هي النهاية، مع أنها ليست سوى بداية الطريق الصعب نحو الديمقراطية ومعظمهم يفضل للاسف الجلوس على الربوة والاكتفاء بلعن الظلام.
كاتب وصحافي من تونس

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.