حياة جبروني
مما لاشك فيه أن الحنين إلى الماضي بكل أحداثه وصوره النمطية، يشعرك بالأمان والانتشاء بالأشياء البسيطة التي تستخرج مشاعر السعادة المفقودة وسط ضجيج التحضر والموضة المفرطة، البعيدة عن الوقار والخطوط النظيفة، ساهمت حسب اعتقاد البعض في صناعة جيل فارغ من محتواه الأخلاقي والروحي.
طبعا لكل واحد منا ذكريات عالقة في عقله يستدعيها من أمسه الجميل وأيامه الخوالي. أيام الطفولة والشباب ومتانة العلاقات الإنسانية، خصوصا الأصدقاء والأقارب والجيران… فلا تؤمن الأغلبية بالوفاء والثقة والأمن والتآزر والتآخي وصدق المشاعر الإنسانية إلا مع الجيل السالف. فإن هم ذهبوا، ذهبت العلاقات والروابط الجميلة.
والحقيقة أن الرجوع للمحفوظات المثالية أو ما يصطلح عليه ب”النوستالجيا”، رجوع إلى براءتنا وذواتنا وأحلامنا الوردية التي طوتها دفاتر الأيام. فأحيانا قد يستحق الماضي الركوض بين أزقته ودروبه كلما أرهقنا الحاضر وأزعجنا غموض وضبابية المستقبل هروبا من سرعة الحياة المعاصرة وصخبها وازدحامها بالهموم والأوجاع. كأننا مركبون على حب كل ما هو بائد رغم أنه لا يملك أية كثافة وجودية، لكنه يبقى جزءا منا شرط ألا نجعله الحاضر والمستقبل، ألا نبالغ في تمجيد الماضي ونقضي معظم أيامنا وأوقاتنا خلف قضبان سجنه، فنصبح تحت رحمة الصمت والقِدم والبالي، كي
يُسحب منا الإحساس بالرضى والتطلع بشغف للمستقبل.
لم أقل علينا إلغاء الماضي، لأنه جزء من حياتنا، لكن يمكن الاحتفاظ به جانبا، حتى تستدعيه الذاكرة لتقاسم جماله وعفويته وفطرته وتعداد بعض محاسنه، وان كان لا يخلو من مساوئ ومقابح مثله مثل ما هو كائن أو ما سيكون. فلا جدوى من إطالة الوقوف على الأطلال والبكاء على الآثار والبقايا… فالأماكن اتسعت والظروف تغيرت والعقليات تبدلت والعلوم تطورت وازدهرت. فهل يعقل أن يتباهى المرء بتغيير هندسة مسكنه كل مرة حسب الموضة مثلا، مع تجديد موديلات الصالونات والتفريشات آخر صيحة، وهو يعيش على حنين وهيام “بوشراوط والهيادر” ويتنهد ويتأوه ويتأسف على تلك الأيام “المُحَنْبَلة”.
قد نتفق أننا لم نستطع إعادة هيكلة الماضي بطريقة تستجيب لروح الحاضر وتطمح للمستقبل بكل ثقة وحماس، فكل ما جادت به قريحة أنصار الأسلاف أنهم جعلوا للحياة الهالكة قدسية ومكانة عالية مفرطة ولُقب جيله بالجيل الذهبي أيقون القيم والأخلاق…، بل خصص له مريدوه جمعيات وصفحات على المواقع لجذب جيل الشباب إلى اعتناق مبادئهم وشرائعهم وتكوينهم على طريقتهم النموذجة تكمن في إجلال القديم والتوجس من المستقبل. لكن ما يجب أن يستوعبه عبدة الزمن الجميل الذهبي أن نبض الحياة هو المحرك الأساسي للاستمرارية دون أي وازع آخر.
وحتى تتضح الرؤية وتتسع وتتعمق دائرة الفهم الصحيح لأهمية الزمن بمراحله، وحتى نكون أكثر موضوعية وعقلانية ولا نُقوي السلف على الخلف، تعالوا نُلقي نظرة سريعة على واقع الحياة الماضية ونميط اللثام عن مساوئ ومثالب ما اصطلح عليه بالزمن الجميل وجيله الذهبي الذي ليس له مثيل في الحاضر ولا في المستقبل حسب تصور البعض. ولتكن المرأة، الزوجة، والأم، أول ما سنفتتح به قراءتنا للماضي باعتبارها المدرسة الأولى.
هذه المرأة الحضن الكبير، الحاضن لجميع أفراد العائلة، الساهرة على راحة الجميع. المرأة الجندية الضحية المضحية الناكرة لذاتها، كانت مهمتها محصورة في فلك زوجها وعائلته وأبنائها، هل كانت راضية عن واقعها؟، هل كانت تضحيتها طوعا أم كرها؟، هل استمعت لها يوما وهي في أرذل العمر تحكي بحرقة ومرارة عن قساوة ظروف عيشها في أسرتها التي عجّلت زواجها لتتخلص من مصروفها وحتى لا يفوتها قطار الزواج فتصبح عالة عليهم، ولأن البقاء في البيت للأقوى فقط، أي للذكور المحظوظين انذاك بالاهتمام والانفاق والتعليم؟….
نعم المرأة التي خرجت من بيت والديها على ألا تعود إليه شاكية باكية، بل راضية مرضية رغما عن أنفها، ضَيفةً خفيفة ظريفة لتسمع بعد واجب الضيافة نصائح ومواعظ يغلب عليها اسلوب التحذير والتخويف والردع إذا فكرت يوما في التمرد على وضعها وظروف عيشها أوالمطالبة بحقوقها الانسانية، كـ “ديري اولادك وسكتي، ماشي انت الأولى ولا الاخيرة، ماعندك فين تجي، الى طلقتي شوفي فين تمشي، احنا كبرناك وزوجناك وفضينا، راه الا طلقتي مابقات عندك لا قيمة ولاعائلة….” هذا هو واقع الزمن الجميل الذي كان يعْلو فيه صوت الرجل فقط، وفي المقابل يُجْهَز على حقوق المرأة… نعم هذه حقيقة النظرة المجتمعية الخاطئة تجاه الأمومة، والظالمة في التعاطي مع مستحقاتها وحاجاتها… والدليل على ذلك، أنها ركزت على تعليم الأبناء تعليما صحيحا.. لقَّنت الابن دروسا في احترام المرأة زوجته المستقبلية وأم أولاده، ومعاملتها بالحسنى وحماية حقوقها كما أمر الله، وكيفية تمتين العلاقة الأسرية القائمة على خاصية الاستقلالية أولا وأخيرا.
ومن ناحية أخرى ولحاجة في نفسها، ألحت بشدة على تعليم بناتها بل أجبرت أحيانا الابنة على اكمال دراستها حتى تتخرج وتلتحق بدنيا الشغل والكفاءات والمناصب العليا وتتبوأ المكانة اللائقة في المجتمع مثلها مثل الرجل. وفي كل مرة إذا تهاونت الابنة في واجباتها المدرسية تذكرها بثأرها الذي تتوق اليه من الجهل ومن الظلم والحكرة ومن الحرمان…
هذا جانب واسع من الماضي المسكوت عنه، صنع للمرأة عالما مزيفا وفضاءً مظلما لم يأتِ بهما أي دين وأية شريعة.
الأم في الزمن الجميل والجيل الذهبي كما يتوهم البعض، الأمومة الممدوحة وأيقونة المجتمع والمثل الأعلى، انصتْ إليها مرة واحدة فقط وهي تحدثك عن علاقتها بزوجها وبالعدوزة والنسيبات، وعن أشكال العنف الممارس عليها من طرف الزوج المنتمي للجيل الذهبي أو الألمازي.. كيف كان يضربها بأمر من أمه (المخزن) أو كيد وغيرة من اخته أو أخواته، دون السماح لها بالدفاع عن نفسها… كيف كان يضربها وهو يعلم جيدا بأنها مظلومة، كيف كان يضربها ليحظى برضى الوالدة التي لا يُردّ لها طلب، الأم التي ترى في العروسة شريكة ومنافسة لها في ابنها وأية معاملة انسانية منه قد تُنقص من شخصيته وفحولته.
الحقيقة أن هذه المرأة التي خصها العلماء والفقهاء والمفكرون والكتاب بالدراسة والتحليل، أصدق وثيقة لتاريخ أمسنا الذي ترفض أحيانا تذَكّره وتنتصر للجيل الجديد الشبابي وتثني على حسّه الانساني.
وعلاقة بالموضوع يمكن أن أعترف أني لم أحب يوما الدراسة أو الذهاب إلى المدرسة، لكن إلحاحها وإصرارها على التعليم من أجل بناء ذاتي ومستقبلي جعلني أهضمها. وليست الوحيدة التي تنصح بالتعليم بل كل أم أصادفها، جارة، قريبة أو والدة صديقة، في كل مرة أسمع نفس الاسطوانة لي ولبنات جيلي “قراو، ماتشبهوناش، الي مقراش يتظلم ومعندوش الي يدافع عليه،….” نفس الطلب ونفس الهدف. وأكثر درس علمتنا إياه أمهاتنا في مسألة التضحية ونكران الذات، أن نصحح التشبيه الخاطئ للأم: بأنها مثل الشمعة تحترق لتضيء على الآخرين. بل علمتنا أن نكون مثل المصباح يضيء على نفسه أولا ثم على من حوله ليَنعم الجميع بالنور.
في ظني الشخصي، أن المبالغة في تمجيد الزمن الفائت ومدح جيله بصيغة الجمع، كل هذه الاعتقادات وهذه الأفكار والقناعات تنتمي بشكل من الأشكال للاديولوجية المخادعة، لأنهم ببساطة يقفزون على الذكريات القبيحة والمعيبة ويحتفظون باللحظات المليحة التي خلفوها وراءهم. ولأنهم ببساطة أكثر أدمنوا البائد بجيله وأشيائه وعشش في عقولهم ونخر قلوبهم الى درجة أنهم يرفضون كل ما هو جديد وغير مقتنعين بكفاءات ووعي جيل الزمن الحالي والآتي.
ومن بين المغالطات التي يروجها مريدو القديم خصوصا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، هي أفضلية رجال ونساء التعليم من الجيل الذهبي من خلال نشر صور بعض المدرسين خاصة بهم أو مع تلامذتهم وما يصاحب ذلك من مدح فاحش ومبالغ فيه والتنويه بطرق وأساليب التعليم وتفانيهم في العمل وووووو ولم يُشر ولو من باب الموضوعية والشفافية لعيب واحد ارتكبه المعلم انذاك إما ذرءا لخدش أحاسيس بعض المعارف أو عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد عن البعض: “اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم”.
ولكن ألا ترون معي أنه يتم تزييف الماضي وتحويره وإبعاده عن واقعه وحقيقته؟. شخصيا أعتبره نوع من شهادة الزور حين نقول في الشخص ما ليس فيه.. لتدويخ المتابعين والقراء وانحرافهم عن جادة الصواب. إذ جعلوا من المدرسين القدماء ملائكة يمشون على الأرض على المواقع. أما في الواقع، لو يقولون بكل صدق كلمة حق في بعضهم، لانقلبت الموازين وأصبح احتلال قيم وأخلاق ورسولية المعلم سمة من سمات معظم رجال التعلييم الحاليين مع احترامي وتقديري لبعض المعلمين القدماء المعروفين بجديتهم وإخلاصهم ونزاهتهم.
وحسبي بالأستاذ الحالي الذي يقدم للمتعلمين الدعم التربوي المجاني والنفسي خصوصا فترة الامتحانات ويشاركهم مشاكلهم وهمومهم ويحاول البحث عن صيغ فاعلة لتوجيههم وتأهليهم….
وحسبي بالأستاذ الماضي علق ورقة مكتوب عليها “حمار” حاشاكم على ظهر بعض المتعلمين، وكفى.
نحن لا نبغض الماضي، بل نسعى أن نستبقي من الذكريات الماضية ما نريد، وندافع عنها بشدة من أجل البقاء، على أن لا يتغلغل ويتجبر ويطغى على حياتنا الحالية فننحني لكل الأشياء القديمة، نقدسها ونعظمها ولا نرى الصلاح إلا فيها. وفي المقابل نرفض الانخراط في عالم الجديد والبدايات والمحاولات والاستمرارية.
يجب أن يدرك البعض أنه ليس هناك جيل ذهبي وجيل قصديري. زمن جميل وزمن قبيح. فالخير والشر والمثالية موجودة في كل الأزمنة والأمكنة. ففي وقت بعيد، كان من يلج سوق الشغل بحثا عن فرصة عمل في المحلات التجارية أوتعلم حرفة يعيل بها نفسه وعائلته، لا يتخرج من هذه المدارس وينال ليس شهادة التخرج بل حرفة في يده تمكنه من العيش بهدوء وكسب قوته اليومي، يتم استغلاله من طرف صاحب العمل في السُخرة للبيت والمحل وصاحب المحل والتنظيف شهورا أو سنين عددا ناهيك عن القمع والتوبيخ الشبه اليومي، والأنكى، هو مجانية كل هذه الخدمات ولا يمنحه سر المهنة، حتى يُوفّي ويُكفّي من مقابله، قس على ذلك المَن المستمر بفضله عليه. بخلاف هذا الجيل، قد لا تستطيع أن تميز بين رب العمل وأبنائه وبين العامل أو الأجير الذي يصبح فردا من أفراد الأسرة يشاركونه اللقمة ويقاسمونه المشاكل والصعوبات، مع تخصيص أجر مناسب وأحيانا قد يوفرون له الحماية الاجتماعية والصحية إذا ما أثبت جدارته وكفاءته وحظي بثقة الجميع. يجب أن نعترف بالحس الانساني العالي الذي يتحلى به جيل اليوم والذي يبدو في الانخراطات الشبابية المكثفة المساهِمة بشكل قوي وواضح في الأعمال الخيرية.
فتقريظ وتنويه الجيل الماضي بشكل مفرط والسكوت عن مساوئه ومثالبه، ظلم لهذا الجيل. فعلى حسناته ورغما عنه كُتب له أن يظل غارقا بين مخططات وصفحات وحسابات وعصرنة وزخم اديولوجي يحيط به من كل حدب وصوب.
أعود وأقول أنه كان على محبي الزمن الجميل أن يعالجوا الماضي بكل موضوعية واظهار مميزاته ومناقبه للتحلي بها. وكذلك فضح مخازيه ومناقصه لتجنبها أو تصحيحها.
كان ينبغي فهم الماضي وربطه بالحاضر للحاق بإيقاع المستقبل. فبعد كل ما قيل ولم يُقال، شخصيا أومن بأنه ليس هناك جيل ذهبي وجيل قصدير وليس هناك الزمن الجميل والزمن الرديء وليس هناك ما يسمى بالسلف الصالح والخلف الطالح. فالجمال والقيم والأخلاق والحس الانساني موجود بوجود الانسان في كل الازمنة والعصور والأمكنة، وتبقى مثالية الماضي وجودته مجرد وَهْم صنعته الانهزامية والفراغ الوجودي والفكري…
من الاخِر أنجع طريقة للتعامل مع الذاكرة والذكريات، أن نتذكر الماضي بخير ونستمتع بحاضرنا ونصنع بكل شغف مستقبلنا.
انتهى