عبد السلام انويكًة
عشرات آلاف الجزائريين اختاروا المغرب وجهة لهم منذ احتلال بلادهم من قبل الفرنسيين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي تتبع لهجرتهم ولجوئهم يسجل أنها كانت عبر موجات، الأولى منها بدأت بعد الاحتلال مباشرة وقد اتخذت طابعاً فردياً شمل علماء وإداريين وحرفيين…، وآخر جماعيا همَّ قبائل أو فروعاً منها مثلما شهدته جهة الجزائر الغربية، علما أن معظم هؤلاء استقروا بمدن وجدة وفاس وتطوان وتازة ومكناس وطنجة بل أيضا وببوادي مغربية. أما الثانية من نزوحهم فقد ارتبطت باحتلال وجدة وفرض الحماية على المغرب، وورد أن هذه الموجة كانت أكثر قوة عن منطقة وهران خاصة، تحديداً مدن تلمسان وندرومة ومعسكر. وفي موجة لجوء ثالثة طبعتها اجراءات قانونية تنظيمية، كانت ما بين نهاية حرب الريف والحرب العالمية الثانية. أما الرابع من موجات هجرتهم فقد امتدت حتى استقلال المغرب، علما أن ما حصل خلالها ارتبط بحرب استقلال الجزائر سنة ألف وتسعمائة وأربعة وخمسين، بحيث من لجأ واستقر بالمغرب آنذاك قُدر بالآلاف.
وبقدر ما كان لهذا اللجوء من أثر في طبيعة علاقة ادارية وسياسية فرنسية جزائرية، بقدر ما كان عليه من وقع ضمن اطار اسلامي لكونه جاء رفضاً للاحتلال وكان لجوء الاشقاء الجزائريين منذ بداياته صوب المغرب موضوع تعليمات سلطانية، وقد تضمنت حسن استقبالهم أينما نزلوا عملاً بروح ما يجب من تضامن وتكافل وتعاون. نستحضر في هذا السياق رسالة سلطانية مؤرخة في 11 جمادي الأولى 1254ه، وقد ورد فيها: “إن أهل الجزائر ناس غرباء أخرجهم العدو الكافر من أرضهم ووطنهم والتجؤوا إلى إيالتنا واستظلوا بظل عنايتنا، فينبغي لنا أن نؤنس وحشتهم ونعاملهم بما ينسيهم غربتهم لأنهم إخواننا في الدين”. وحول وجهات لجوء الجزائريين داخل المغرب، كانت وجدة أول قبلة بل قاعدة لأهم جالية جزائرية به، ما قد يكون سبب ما تعرضت له المدينة من ضغط فرنسي، وبالتالي ما أدى إلى واقعة اسلي وما حصل من تطورات إلى غاية احتلالها 1907. بعدها نجد كلاً من تطوان التي حلت بها أعداد هامة من الأسر الجزائرية منذ 1830، ثم فاس التي استقبلت هجرة جزائرية عبر فترتين بين 1830 و1842، وقد شملت أسراً من الغرب الجزائري، خاصة تلمسان ووهران ومعسكر، بحوالي خمسة آلاف مهاجر معظمهم علماء وشرفاء، ثم بين 1842 و1844 إثر صدور فتوى تسمح بهجرتهم ولجوئهم. وكان عدد هام من أسر مدن تلمسان ومعسكر ومستغانم قد انتقل إلى فاس، منها من استقرت وهي في طريقها إليه بكل من وجدة وتازة. وقد ورد أن فاس باتت غير قادرة على استيعاب أعدادهم، مما دفع السلطان إلى السماح لهم بالاقامة خارجها.
وبحكم تماس الحدود وطبيعة ما هناك م علاقات اجتماعية ثقافية جامعة، توافد على وجدة أكبر عدد من الجزائريين قبل فرض الحماية على المغرب. وما كانوا عليه من دور في دينامية المدينة جعلهم بموقع خاص فيها تقوى أكثر إثر ما حصل من لجوء باتجاهها بعد احتلالها، لدرجة أن عدد اللاجئين الجزائريين المقيمين بوجدة عام 1907 بات يشكل تقريباً خمس (1/5) ساكنتها. بل أن هذه المدينة كانت تحتضن أواسط ثلاثينات القرن الماضي أكثر من نصف عدد الجزائريين المقيمين بالمغرب (57,5%). أما من قصد منهم فاس وكان بحوالي خمسة آلاف، فمعظمهم من مدن تلمسان ومعسكر ووهران ومستغانم، أي من الغرب الجزائري. وفضلاً عن توفرهم على نقيب كان يتولى بعض شؤونهم وتدبير خلافاتهم وترتيب صلتهم وتواصلهم مع السلطات، منهم من التحق بالعمل في دار المخزن مثل أسرة “المقري”، ومنهم من اختار التجارة والكتابة والتوثيق والنسيج والخرازة والمقاهي وغيرها. ومن الأسر الجزائرية اللاجئة التي اختارت فاس وجهة لها بعد واقعة إسلي، نجد “ولاد بن منصور”، ومنهم مؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصور، ثم “ولاد المقري”، ”ولاد بن حربيط الحسنيين”، ”ولاد بن عبد الجليل”، ”ولاد بن الأعرج السليمانيين”،”ولاد بوطالب”، والغبريطيين والمشرفيين والمراجيين والخالديين والمازونيين والبوسعيديين الوادغيريين…، مع أهمية الاشارة إلى أن من الأسر الجزائرية من سكنت مدن الرباط وتطوان ومراكش مثل“ولاد بنونة”، ”ولاد داود”، ”ولاد جباص” وغيرهم. وكانت فاس قد استقطبت ثلاثمائة أسرة من بلاد توات مطلع القرن الماضي، وضمن موجة لجوء جزائرية ثانية بعد احتلال وجدة، نجد قضاة وإداريين ومدرسيين وغيرهم. وقد بلغ عدد الجزائريين بالمغرب بعد الحرب العالمية الثانية حوالي أربعين ألف لاجئ، موزعين على مدن وجدة وفاس والدار البيضاء ومكناس والرباط ومراكش وتطوان وتازة وغيرها. ويُذكر أن من أشكال دعم وحضن هؤلاء ومؤازرتهم بهذه المدن وبخاصة الفقراء منهم، تحبيس مغاربة لبيوت عليهم وجعلها رهن إشارتهم كما حصل بتطوان، وقد انتظم اللاجئون الجزائريون بمدن المغرب هذه ضمن جمعيات.
وكانت تازة بين وجدة وفاس، قد استقبلت عدداً من هؤلاء، فكان ما كان من تضامن وعيش مشترك أبان عن عمق تآزر وحضن ما يزال أثره عالقاً في ذاكرة أهالي المدينة. فالرواية الشفوية بتازة ومنها لمغاربة من أصول جزائرية تتحدث على أن من حل بتازة من الجزائريين كان بحضن رفيع، لِما حصل من اندماج وانخراط في أنشطة عدة ضمن تفاعل مع أحوال اهالي ومجتمع واقتصاد وسياسة وثقافة، فضلاً عما كانوا عليه من تنظيم وتلاحم بينهم وبين الآخرين، ناهيك عما كان من انسجام لهؤلاء وسط الأهالي ضمن عيش مشترك وتزاوج وتجاور وأمن واطمئنان دون تمييز، بحيث كانوا يسكنون بمختلف أحياء تازة العتيقة، ومنهم من مارس أنشطة تجارية وحرفية ومن زاول وظائف تربوية تعليمية وادارية إسوة بإخوانهم المغاربة. وفي علاقة بتازة نذكر من الأسر التازية “المقري”، وهي من أصول جزائرية منها من هاجرت لفاس أواسط أربعينات القرن التاسع عشر. ومن الأسر التازية ذات الأصل الجزائري التي انتقلت إلى فاس نجد “المراحيون” وكان ابناؤهم بتازة، وكذا أسرة “المازونيين” ومنهم القائد أبو بكر الناصري المازوني الذي تولى رئاسة الجيش المغربي بتازة زمن السلطان محمد بن عبد الرحمن. وفي علاقة بدرجة اندماج من لجأ إلى تازة من الجزائريين وأقام بها، نذكر أن بالمدينة مدرسة شهيرة تحمل اسم خالد بن الوليد وتعرف أيضاً بمدرسة “كون كودير”، وهي في الأصل جزء من ثكنة عسكرية زمن الحماية حملت اسم ضابط عسكري فرنسي “coudert” إلى غاية سنة ألف وتسعمائة واثنين وستين. وقد فتحت أبوابها في ثاني أكتوبر ألف وتسعمائة وأربع وأربعين، وكان أول مدير لها من أصل جزائري ممن استقر بتازة وقد عرف بـ ”الجيلالي” كما يذكره ويحفظه أرشيف المؤسسة.
وفي إطلالة على بصمات تموقع وتفاعل بعض من كان مقيما بتازة من الجزائريين اللاجئين، خلال فترة الحماية وبعد الاستقلال حتى سبعينات وثمانينات القرن الماضي، من المفيد الاشارة إلى أن من الموقتين الذين ارتبطوا بجامع تازة الأعظم، هناك الشيخ العلامة الزاهد “عبد الرحمن الهاشمي المعسكري”، نسبة لمنطقة معسكر بالجزائر، نزيل تازة الذي أخذ عن عدد من العلماء والفقهاء وكان معتكفاً تقريباً في غرفة التوقيت، نادراً ما كان يخرج منقطعاً لعبادة الله حتى وفاته ساجداً في إحدى ليالي شهر رمضان، وقد دفن في صحن الجامع قبل حوالي مائة سنة. وفي شأن الترفيه، نذكر أن من أولى مقاهي تازة واحدة كانت تعرف في ساحة أحراش بمقهى “عباس”، نسبة إلى شخص من أصول جزائرية، وقد ظلت تعرف بهذا الاسم إلى عهد قريب. ومن حرف المدينة التي طبعت دينامية هذه الساحة التاريخية وتقاسمت أركانها، نجد التصوير، واحداً من محلاته كان يحمل اسم “استوديو الشباب”، وهو لجزائري ظل نشيطا حتى نهاية سبعينات القرن الماضي. وضمن أنشطة الترفيه والثقافة من تدبير جزائريين، نجد “السينما”، من خلال مقيم جزائري مالك لإحدى أقدم دور السينما بالمدينة “سينما كوليري”، وكان يحمل اسم “مومن”. بل من هؤلاء من استثمر في مجال النقل “حافلات” كما بالنسبة لجزائري عرف بـ”المنكًشي”. ومن الفاعلين السياسيين من أصول جزائرية، نجد “عزوز اللاجئون جريري” الذي تحمل مسؤولية رئاسة المجلس البلدي لتازة لفترة، وكان بطبع وتاريخ وكاريزما خاصة. ناهيك عن آخرين إن خلال فترة الحماية أو بعد استقلال البلاد ممن مارسوا مهاما أخرى من قبيل التعليم والإدارة وغيرها، وفي ذاكرة المدينة كثير مما يحيل من أسماء أسر على لحظة لجوء وانتماء جزائري من قبيل “الوهراني” و”التلمساني” و”المقري” و”الرحماني” وبنصاري وبن عصمان والعباسي والحجوي…، بعض فقط من كل ومن ذاكرة رمزية حول إرث رمزي بين بلدين شقيقين.
والشيء بالشيء يذكر كما يقال، من المفيد الاشارة في علاقة بتازة وبالمقيمين بها من جزائريين الى أنه بعد استقلال الجزائر قبل حوالي ستة عقود. وفي رحلة لها الى المغرب حطت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رحالها بمدينة تازة، من خلال وفد رفيع لها بقيادة الأستاذ احمد توفيق المدني برفقة شيخ الاسلام مولاي العربي العلوي، وقد تم استقبال الوفد الجزائري هذا من قِبل الجمعية الجزائرية بتازة وكذا وفد عن حزب الاستقلال، فضلا عن الآلاف من أهالي المدينة على إيقاع لافتات مرفوعة كتب عليها “مرحبا باخواننا العلماء الجزائريين”، مع ما تزينت به شوارع المدينة من أعلام وطنية وصور لجلالة الملك، علما أن وفد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتازة تم استقباله بالثمر والحليب، على الطريقة المغربية الأصيلة عربون تقدير ومحبة وترحيب. هذا قبل كلمة ترحيب بالوفد الجزائري تقدم بها شيخ الاسلام مولاي العربي العلوي، اما حزب الاستقلال بتازة فقد استقبل الضيف الجزائري في مساء طبعه ذكر وتلاوة قرآن وقصائد شعر، فضلا عن كلمات علماء البلدين المغرب والجزائر وقد تضمنت ما يجمعهما من مشترك رمزي واسع ومتعدد. كان هذا الحدث قبل حوالي ستين سنة بتازة، التي كانت تؤثثها كما سبقت الاشارة لذلك جالية جزائرية معبرة، استقبلت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عندما حطت رحالها بالمدينة ذات يوم.