سعيد سونا – باحث في الفكر المعاصر
العلماء هم عصابة الحق وخاصته ، هكذا أطلقها سيدي عبد الله كنون ، كريح مرسلة تصك أذان المستمعين ، في درس حسني مجيد سنة 1982 ، برئاسة العالم والملك المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه … نعم ذهب أهل الدثور بالأجور ، فلم يبقى لنا سوى أن تحتوقف ظهورنا ، ونطرق الرؤوس لهؤلاء بنية التحصيل ، والتسليم دون أن نسيء الأدب مع الذي سبقونا من ذوي الأسنان ، والقصد هنا أهل الله وخاصته في التدين والمعرفة ، وفي هذا يقول الإمام مالك ” لن تنال العلم الا بستة : ذكاء وحرص واجتهاد ، وبلغة وصحبة أستاذ ، وطول زمان ” … وهي الخصال نفسها التي أجمع جمهور العلماء على توفرها في الأديب والمفكر والفقيه والسياسي والمجاهد سيدي عبد الله كنون نور الله قبره ومضجعه ….
عبد الله كنون وما أدراكم ما عبد الله كنون ، هو تلك المعجزة التي تومض الحافة في الحناجر ، الوطني الصادق الذي أخرج من المغاربة ، تلك الخبيئة التي تجمعهم مع الله ، لتضعهم في ريادة العالم العربي ، في كل دوائر المعارف والعلوم ، هو السر الرباني الذي علم المسلمين ، حرفة صناعة الإنتباه ، فتضلعت حناجرهم ” tgr3o ” بحزمة من المجلدات المرجعية ، التي تميزت أولا بالصدق ، لأنه عمود الدين وركن الأدب وأصل المروءة ، وفضحت تلك المخيطة الفاسدة ، لاغتيال الأدب المغربي وعلماءه، فماكان من سيدي عبد الله كنون الا التسلح بالاستبسال الطويل أمام معاول هدم ، تريد الوقيعة بين المغرب والمشرق، وفي هذا الصدد يقول الرجل ” برغم الإهمال والتهميش الذي تعرض له الأدبُ المغربي طول العصور الماضية، إلا أن العلامة عبد الله كنون بمبادرته الوطنية في تأليفاته وخصوصا كتاب النبوغ المغربي استطاع أن يلملم التراثَ المغربي الموزع في مظان الكتب واستخراج كنوزه وحفظها من الإهمال والضياع. بل يمكن أن نقول إن الفضل يعود له في إخراج الأدب المغربي إلى الوجود فهو صاحب نظرية الأدب المغربي لان ذلك لم يمن معروفا من قبل،
وهو بذلك أثبت مكانة الأدب المغربي في صرح الأدب العربي كما كان يطمح رحمه الله، وأعلن هذا في مقدمة كتابه شاء من شاء وأبى من أبى، ويكفينا فخرًا الحفاوة التي حظي بها الكتاب في الأوساط الثقافية والأدبية، وتهافت العلماء على دراسته وقراءته، وهذا أكبر دليل على حاجة العالم إلى معرفة الأدب المغربي الصرف وذاكرته “
المقتطف من المجلد الموقر الذي تستدير له ، ظهور الجاحدين ، قبل المسلمين ، مجلد ” النبوغ المغربي في الأدب العربي ” كتاب تدخله بشهية الفضول العلمي ، وتخرج منه مغربيا ممشوق القد ، يتفقد جسمه من الرأس إلى التراب الذي يمشي عليه ، لينتهي بطرح السؤال الذي أدمن عليه كل قراء الكتاب ، هل المغاربة أسياد الأدب والعلوم والفهوم ؟ … نعم هو كذلك ، فالحسن الثاني عندما طلب من المغاربة أن يمشو حفاة، فلأنه يعرف أن الأرض المغربية ، طاهرة ومباركة ، يصعد منها اكسير النبوغ إلى الأبدان …
سيدي عبد الله كنون ، العلامة الذي حول خلوته لجلوة، وجعل لسانه رطبا بتمغرابيت، في كل منعرج علم يسلكه، يدك انه كل من ترك داره قل مقداره ، لذلك لم تنال منه تلك المتهافتات المشرقية ، التي تريد أن تحتكر المعرفة ، وسريرتها تدرك أنه يستحيل قتل الزعامة في الإنسان المغربي ، فالمغربي بذبيغته الراقية ، كتلة من التناقضات التي تصنع النجاح الباذخ ، لذلك علينا أن نتمخط بالمقولة الحكيمة ” الاجنحة التي لاترفرف لاتطير فمن أراد أن يمخر عباب السماء فعليه أن يتحمل الالم ” وبعد ذلك يجب على عزائمنا بألا تخطأ موعدها مع التاريخ ….
يقول سيدي عبد الله كنون في كتابه – خل وبقل – ” ان الأدب رسالة مقدسة يجب ألا تقتصر على الأغراض اللفظية، ولا على المتعة الذهنية، ولا على المعاني الذاتية التي لا يشعر بها إلا الأديب المتكلم نفسه، إنها رسالة ! ومفهوم اللفظ مما ينبغي ألا يعزب عن البال، فهو مهمة الهدم والبناء، والعمل الجماعي المؤدي إلى الغاية التي أدت إليها رسالة النبيين من قبل، غايته فتح الآذان الصم، والأعين العمي، والقلوب الغلف، على (دعوة الحق) التي تنقذ البشرية من ضلالها الحديث، كما أنقذتها بالأمس من ضلالها القديم. وإنها مقدسة: وليس المراد بهذا الوصف معناه الخيالي الذي يبتذله به الحالمون، وإنما المراد به الإكبار من شأن هذه الرسالة، ذات المسؤولية العظمى، التي لا يتحملها إلا أبطال الكفاح من أجل القيم الإنسانية العليا، فهم المجاهدون الذين يزرى مداد أقلامهم بدم الشهداء».
تكلم هي رسالة الأدب كما يؤمن بها المؤلف.. رسالة هادفة تتخذ الواقع العربي بمختلف مقوماته نقطة الانطلاق، فإذا بالأدب صرخة، وإذا به دفقة نحو الحق، والخير، والجمال.. لا كما يتخيله أصحاب نظرية «الفن للفن» فرقعة فارغة، مقفلة على نفسها لا ترى النور، أو رياضة لفظية لا وظيفة لها سوى المتعة الذهنية وإزجاء الفراغ “
أما في الميدان الديني فقد أفحم عالمنا الجليل ، علماء الدين في المشرق خصوصا في الباب الأكثر حساسية في العلوم الشرعية الا وهو باب الفتوة فيقول ” كانت الفتوى قبل اليوم تدور في فلك المذهب وقواعده وتعتمد أقوال علمائه، وحاملي رايته، لا تكاد تخرج عن ذلك نادرا حينما يكون الدليل الشرعي واضحا وبمتناول الجميع، أما اليوم وبعد أن نشرت كتب السنة وشروحها، وكتب الخلاف العالي، والمذاهب الفقهية المتعددة، وأصبحت متداولة بين أيدي الناس، واطلع الفقهاء وطلبة العلم على ما بها من أدلة ومدارك تخالف ما كانوا يعهدونه، ويتمسكون به في بعض المسائل، فإن المفتي الآن صار مطالبا بتخريج المسألة على مقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وما في حكمهما، ومقارنة المذاهب وأقوال الأئمة والترجيح بينها.” [من مقدمته لفتاوى محمد كنوني المذكوري.]
– السيرة الذاتية والعلمية لعبد الله كنون… العلامة الطرازي الذي أعاد الاعتبار للفكر والأدب المغربي :
في هذا البورتريه، نتابع بعضا من سيرة حياة علامة المغرب، عبد الله كنون .
اسم “كُنون” ليس بغريب عن أسماعنا في المغرب، هذه العائلة الفاسية العريقة وهب الكثير من أفرادها حياتهم للعلم والمعرفة… عبد الله كنون واحد من بينهم. يوما بعد يوم، سنة بعد سنة، وإلى نهاية حياته، ألف ما يناهز المائة كتاب، غايته في ذلك، إعادة الألق للأدب والفكر والتاريخ المغربي، بعدما ذاع الانتقاص منه في المغرب مقارنة مع المشرق.
في هذا البورتريه، بعض من سيرة حياة علامة المغرب، عبد الله كنون!
ولد عبد الله كُنون في الـ16 من شتنبر 1908، بمدينة فاس لعائلة عريقة اسمها كنون، وفي بيت علم، اشتهر آله بتفقههم في مجالات الأدب والسياسة والدين، وليس ذلك بغريب عن عائلة تسكن هذه المدينة، عاصمة المغرب العلمية، وموطن أقدم جامعة في العالم، جامعة القرويين.
بفضل الحرب العالمية الأولى، ظل كنون بالمغرب بعدما كانت عائلته قد قررت إلى الشام، فاستقر بطنجة وأخذ يتعلم حتى صار مع دخوله عقده الرابع، اسما أشهر من نار على علم.
صادف مولد عبد الله إرهاصات استعمارية ستنتهي بتوقيع معاهدة الحماية عام 1912. معاهدة كلفت المدينة، كما المغرب بشتى أرجائه، جوا مريبا، العيش فيه خانق. نتيجة لذلك، ستقرر عائلة كنون شد الرحال إلى بلاد الشام.
للمضي في ذلك، سافرت العائلة إلى مدينة طنجة عام 1914، بغية الهجرة إلى الشام عبر البحر الأبيض المتوسط. لكن القدر كان له رأي آخر، ففي ذات العام، ستندلع الحرب العالمية الأولى.
تمهلت العائلة في سفرها، وظلت بطنجة إلى حين، لكن الحرب طالت… تمتد الحرب زمنيا وتستطيب العائلة مقامها في المدينة، حتى قررت أن تبقى فيها كمستقر نهائي. وقد كان عبد الله كنون قد أطفأ شمعته السادسة، وصار في سن التعلم، فأخذ ينهل العلم عن والده، عبد الصمد كنون.
يَحكي عبد الله كُنون عن هذه الفترة في مذكراته فيقول:
“كانت سني ست سنوات حين انتقلت مع والدي رحمه الله إلى طنجة؛ وكان ينوي هو وعمي العلامة المرحوم محمد الهجرة إلى الشام، ولكن إعلان الحرب العظمى الأولى حال دون ذلك. وقد نشأت بطنجة حيث حفظت القرآن الكريم، وزاولت قراءة العلم على مشايخ عدة، وأكثرهم والدي الشيخ عبد الصمد. وكان مجال دراستي ينحصر في علوم العربية والفقه والحديث والتفسير، وأما الأدب فقد تعاطيته هواية”.
يوما بعد يوم، سنة بعد سنة، يتمكن عبد الله كنون من الأحاديث النبوية والمتون القديمة والدروس النحوية، إلى أن أصبح ضليعا في اللغة، عالما في الشريعة. وما أن ابتدأ العقد الثالث من عمره، حتى غدا اسمه أشهر من نار على علم.
بفضل كتاباته في الصحف الوطنية والعربية، بإسهامه في النقاش الفكري والثقافي الذي يتناول قضايا المجتمع، وبفضل غزير علمه ووافر معرفته في الأدب والتاريخ، وإجادته للغتين الفرنسية والإسبانية، حظي اسم عبد الله كنون بانتشار واسع في المغرب كما في المشرق.
اقرأ أيضا: “خناثة بنونة وآمنة اللوه: هؤلاء 6 نساء بصمن تاريخ الكتابة الأدبية في المغرب 1”
قامة علمية قل نظيرها
منذ سن العشرين، بدأ عبد الله كنون يمارس مهنة التدريس، إيمانا منه بأن الاستعمار تقتضي مقاومته تكوين جيل متعلم، واع بحقوقه، ويدافع عن وطنه. هكذا، سنة 1936 سيذهب إلى أبعد من ذلك، بتأسيس مدرسة خاصة حملت اسمه. لم يواجه كنون في ذلك كثير صعوبات، ذلك أن طنجة كانت خاضعة لإدارة دولية وقتذاك.
كتاب عبد الله كنون، “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، يعد أبرز ما ألفه، وفيه جاءت الفكرة الأساسية لمشروعه الفكري الذي وهب له حياته، أي إعادة الألق للفكر والأدب المغربي.
إلى جانب ذلك، وطيلة سنوات عمره المديدة، شغل كُنون مناصب عدة، فكان مديرا للمعهد الخليفي، ثم أستاذا بالمعهد الديني العالي بتطوان وعمل على إنشاء المعهد الديني بطنجة الذي كان مديرا له، ثم وزيرا للعدل عام 1954 في الحكومة الخليفية، ومحافظا على مدينة طنجة عام 1957، وعضوا في المجلس الأعلى للتعليم الإسلامي بالرباط وتطوان، ومديرا لمعهد مولاي الحسن للأبحاث، وعضوا في لجنة الأبحاث العلمية المشتركة بالرباط.
بجانب ذلك أيضا، أصدر عبد الله كنون مجلة دينية شهرية تحمل اسم “لسان الدين”، وأسهم في تأسيس وإدارة عدد من الصحف الأخرى، كعمله مديرا لجريدة “الميثاق”، ومساهمته في تحرير مجلة “الإحياء”.
طيلة حياته، وهب كُنون جل وقته للتأليف، حتى جاوزت مؤلفاته المائة حسب بعض الباحثين، فكتب في مجالات عدة، تنوعت بين الفكر والأدب والثقافة والسياسة، رام من خلالها أساسا الدفاع عن الإسلام من جهة، وإبراز الأدب والفكر الذي عرفه المغرب من جهة أخرى.
“إسلام رائد”، “مفاهيم إسلامية”، “على درب الإسلام”، شرح مقصورة المكودي”، “ذكريات مشاهير رجال المغرب”، “أمراؤنا الشعراء”، “واحة الفكر”، “مدخل في تاريخ المغرب”، “أحاديث عن الأدب المغربي الحديث”، “رسائل سعدية”، “مناهل في أخبار الملوك الشرفا”، “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، كل هذه المؤلفات غيض من فيض كثير، أسهم به عبد الله كنون في إغناء الخزانة المغربية.
بفضل إسهاماته الفكرية والثقافية، حظي كُنون بعضوية هيئات عربية وإسلامية عديدة، منها مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ورابطة علماء المغرب، وهيأة القدس العلمية، ومجمع اللغة الأردني، والمجمع العلمي بدمشق، والمجمع العلمي العراقي.
اقرأ أيضا: “حوار الحضارات من خلال أدب الرحلات 1”
النبوغ المغربي
يظل كتاب “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، أبرز ما ألفه عبد الله كنون. كما يمكن القول إن ما جاء فيه، يعد الفكرة الأساسية لمشروعه الفكري الذي وهب له حياته، أي إعادة الألق للفكر والأدب المغربي.
جاء في مقدمة الكتاب: “كثر عتب الأدباء في المغرب على إخوانهم في المشرق لتجاهلهم إياهم، وإنكار كثير منهم لكثير من مزاياهم. ولكن أعظم اللوم مردود على أولئك. ضيعوا أنفسهم وأهملوا ماضيهم وحاضرهم حتى أوقعوا الغير في الجهل بهم والتقول عليهم”.
“يكفى عبد الله كنون فخرا، لو أنه لم يكتب سوى النبوغ المغربي”، هذا ما يقر به المهتمون بسيرة حياته، وليس بخفي على أحد، أنه منذ زمن طويل، تعرف العلاقة بين المغرب والمشرق نوعا من الغموض، وكثيرا من النفور؛ فكل يهيم في واد، لا يعرف عن الآخر إلا النزر اليسير.
قبيل وفاته، أهدى مكتبته إلى طنجة التي عهد فيها إلى لجنة بتأسيس مكتبة عمومية بالمدينة تحمل اسمه وتضم كتبه إلى اليوم.
حاول عبد الله كنون في كتابه، الرد على التنقيص الذي يقول المغاربة إن المشارقة يواجهونهم به، ومرة أخرى نقرأ في مقدمته: “لما بحثت ونقبت، وجدت كنوزا عظيمة من أدب لا يقصر في مادته عن أدب أي قطر من الأقطار العربية الأخرى، ووجدت شخصيات علمية وأدبية لها في مجال الإنتاج والتفكير مقام رفيع، ولكن الإهمال قد عفا على ذلك كله…، فاحتاج إلى من يبعثه”.
هكذا، تضمن الكتاب كل ما تعلق بالعلم والأدب والتاريخ المغربي، في قالب أدبي متين. تلقى عبد الله كنون على إثر صدوره دكتوراه فخرية من جامعة مدريد عام 1939، بينما واجهه المستعمر الفرنسي بالمنع، إذ كان يحاول طمس الذاكرة المغربية، حسب بعض الباحثين.
من جهة أخرى، حظي الكتاب باستقبال طيب في المشرق، حتى أن أمير البيان شكيب أرسلان، نشر تقييما للكتاب في جريدة “الوحدة المغربية” التي كانت تصدر بتطوان حينذاك، وقال إن المؤلِّف جمع في كتابه بين كل من العلم والأدب والسياسية، كما ثمن براعة عبد الله كنون في تصوير الحياة الفكرية المغربية.
لم يكن عبد الله كنون ليسمح بضياع حياته، فحياته كانت الكتب. هكذا، وقبل خمس سنوات من رحيله، إذ بدأ يرهق المرض جسده، قرر إهداء مكتبته إلى مدينة طنجة، فأسست لجنة عهد إليها بتأسيس مكتبة عمومية لا زالت تحمل اسمه إلى اليوم؛ وذلك ما كان، قبل أن يفارق علامة المغرب الحياةَ، يوم 9 يوليوز 1989 بذات المدينة، مسطرا بذلك نهاية رجل أعطى للمغرب الكثير.
سعيد سونا – باحث في الفكر المعاصر
عبد الله كنون .. العلماء هم عصابة الحق..
رابط مختصر