عبد السلام انويكًة
من ذخائر تازة وتفرد معالم مجالها الحضري العتيق، ما تزخر به من شبكة كهوف حضرية، بقدر ما تتوزع على اجرافها ومنحدراتها المحيطة، بقدر ما هي عليه من حمولة إنسانية انتروبولوجية كما الحال بالنسبة لــ “كيفان بلغماري” التي ببصمات حياة الانسان القديم ومغرب ما قبل التاريخ. واذا كان هذا المكون بنوع من التفرد في بعده الإنساني والحضاري المحلي الوطني والعالمي، فإن ما يسجل من اهمال وبؤس باد على معالمه ومن محيط مقزز في مشهده، بقدر ما يخدش قيمته كأثر لتجليات تطور وتفاعل الانسان القديم مع محيطه قبل آلاف السنين، ولعله الأثر الذي يحيلنا على ما هو حياة بشرية ضاربة في قِدم تازة والمغرب، بقدر ما يحتويه من بصمات حضارة إبيروموروسية تعود لفترة غابرة من زمن انسان العصر الحجري الأعلى، وعليه تعد كفان بلغماري هذه، من أغنى مواقع المغرب البانطولوجية الأركيولوجية وكذا بالشمال الافريقي وحوض المتوسط. لِما تم العثور عليه فيها من بقايا عظمية حيوانية تعود لفترة ما قبل التاريخ، بناء على ما أنجز بها من حفريات خلال عشرينات القرن الماضي زمن الحماية بالمغرب. وهذه البقايا والمخلفات الأثرية التي يرجعها الباحثون المتخصصون لفترة البلايستوسين الأعلى، تُظْهِر ما كانت عليه البيئة محليا (تازة) خلال هذه الفترة، من تنوع وحيش لا يزال ما عثر عليه من عظامه محفوظا في متحف وهران بالجزائر. وكان مما تم العثور عليه جملة أدوات حجرية وعظمية ومواقد تعود لفترة ما يعرف ب”الموستيري” و”الابيرومغربي”، فضلا عن عظام بشرية وحيوانية تخص الضبع والأسد والنمر والدب والكروكدن وغيرها من الحيوانات، التي منها من انقرض من المنطقة (تازة) ومنها ما لا يزال بمحيطها لحد الآن. ولا شك أن “كيفان بلغماري” كانت مسكنا ومدفنا ايضا لإنسان أزمنة ما قبل التاريخ، بناء على ما تم العثور عليه فيها من شواهد حياة وتفاعل قديم.
هكذا إذن هي عظمة موقع تازة الأثري الانساني المتمثل في شبكة كيفان بلغماري، وقد حُفرت في صخور كلسية بأجراف على الجهة الشرقية من المدينة (تازة العليا)، باتساعات وعلو وأعمدة .. وجوانب تبقى الكلمة حولها لأهل الشأن من باحثين متخصصين اركيولوجيين. وهكذا ايضا ما هي عليه بالمقابل من تبخيس وغياب عناية وتهيئة ومنظر ومحيط بيئي مقزز، من شدة ما يظهر من ردم وهدم وخراب وتخريب .. وروائح كريهة، غير محفزة لا على زيارات تعرفية من قبل راغبين، ولا على بحث ميداني من قبل معنيين منفتحين في بحثهم على مواقع اثرية تعود لزمن ما قبل التاريخ. وعليه، فشروط جعل موقع “كيفان بلغماري” رهن إشارة الورش العلمي ومختبراته لا تزال غير متوفرة، وأن هذا الأفق بحاجة لإرادة تنموية وشجاعة أدبية، فضلا عما ينبغي من اعادة نظر فيما هناك من تمثلات تخص التراث المحلي، باعتباره مصدر ثروة ومورد رافع عبر ما ينبغي من حسن استثمار لمدخراته في ورش البلاد السياحي. وخاصة من هذه كنوزه ما هو متفرد نادر في بعده الانساني الحضاري، الذي من شأنه تحقيق جذب وإقبال عال على وتحفه ودلالاته الأثرية، مثلما ما هو كائن بمغارة هرقل في طنجة مثلا. وعليه، على مستوى تازة فقط ما ينبغي من خطوات أولى وتعريف وإبراز واشهار وتهيئة رافعة لكفان بلغماري، ومن إلتفات يليق بعظمتها وعظمة ذاكرتها الانسانية كموقع أثري رفيع المستوى، افتقر ولا تزال لِما هو شاف من تهيئة داعمة، اللهم ما أقدمت عليه وزارة الثقافة من بادرة نبيلة يتيمة قبل حوالي العقدين من الزمن، ومن خلالها من قِبل الأستاذ محمد بلهيسي عندما كان مندوبا إقليميا لها، وعيا منه كغيور مُلِم عارف بأهمية حماية وحفظ تراث مدينته، خاصة منه الذي بنوع من التفرد وكذا الاكراه الذي من شأنه الحاق الضرر به واتلاف روحه الاركيولوجية، وعليه قام بوضع باب مؤثث منسجم كما يظهر في الصورة، على واحد من كهوف بلغماري ولعله الأكبر والأهم من حيث مواده وأعمدته وأثاثه الرمزي الأثري الداخلي. فأي وعي لتازة بتراثها المادي واللامادي، حتى لا نقول أي بياض في هذا الوعي، واي تجاهل لهذا الإرث / الذخيرة التي تطبع المنطقة، والتي لو كانت بجهة أخرى من مدن البلاد لكانت بشأن آخر ومكانة فيما هو سياحي. وهل لم يحن بعد ما ينبغي أن يتبلور من اجل ورش تازة السياحي وارجاع ما كان عليه من وهج واقبال وعناية وبنية زمن الحماية، من خلال ادماج كل مؤهلاته بما في ذلك تاريخ المدينة في شموليته وموارده الحضارية، من قبيل “كيفان بلغماري” التي ببوح اركيولوجي متفرد وحمولة إنسانية محلية وطنية وكونية. باعتبارها واحدة من أعظم مواقع الشمال الافريقي وحوض المتوسط الغربي والمغرب البانطولوجية.
والواقع أن الحديث عن موقع كيفان بلغماري التي بتازة، بقدر ما نستحضر فيه أولا : ما أحيط به من تعرف واستكشاف وتنقيب من قبل فرنسيين عسكريين بعد احتلال المدينة أواسط العقد الثاني من القرن الماضي، ولعل ما جرى من دراسة لم يكن بما هو كاف مساعد لدى هؤلاء من احترافية وتخصص، منهم نذكر جوزيف كومباردو وكان ملازما في رتبته العسكرية، يسجل له ما كان من سبق تنويري عن الموقع من خلال عمله الميداني على امتداد حوالي ثلاث سنوات، وقد مكنته من ترتيب جملة تقارير ذات طبيعة إدارية، صدرت ضمن نشرة لجنة افريقيا الفرنسية Bulletin du Comité de L’Afrique Française، بعنوان “Notes Archéologique sur la région de Taza” . وقد أفاد تقرير هذا الأخير عن هذا الموقع الاركيولوجي بتازة، أنه تم الوقوف على
آثار تعود للزمن النيوليتيكي الذي طبع الحياة بشبه الجزيرة الإبيرية ومعها منطقة الشمال الافريقي عموما، فضلا عن صواعد ونوازل داخل هذا الموقع (الكهف)، وغيرها مما تم العثور عليه من أثاث بدائي ضمن مستويات من التنوع والشكل والأدوار والاحالة على ما هو أزمنة حياة انسان، بدليل بقايا بشرية وحيوانية تعود لفترات متباينة في معالمها ومشاهدها عن انسان ما قبل التاريخ، علما كما سبقت الإشارة، أن معظم ما تم العثور عليه من قبل كومباردو وغيره من فريق البحث والتنقيب ب “كيفان بلغماري”، تم نقله صوب متحف مدينة وهران، بحكم ما كان قائما من تقسيم ترابي عسكري فرنسي آنذاك في بداية الحماية على البلاد.
أما ثانيا في حديثنا عن كيفان بلغماري بتازة، فنستحضر فيه سؤالا مستفزا للجميع كل من موقعه من المعنيين والمهتمين، ويتعلق الأمر فيه بما هو بحث حديث ودراسات أركيولوجية وإضافة، وما يخص أيضا حصيلة عقود من زمن مغرب الاستقلال إن على مستوى اشغال الموقع نفسه، أو ما هناك من شبكة بالجوار فضلا عن مساحة كهوف أخرى على مستوى أجراف محيط المدينة، عبر ما ينبغي من بحث اركيولوجي، وحضور ومساهمة وتأطير وتوجيه وفِرق عمل متخصص عن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث التابع لوزارة الثقافة والذي تم إحداثه قبل حوالي الأربعة عقود من الزمن. مع السؤال أيضا عما هناك من بياض علمي يخص مواعيد محلية ولقاءات لمتخصصين، عبر ما ينبغي من حضور لمصالح وزارة الثقافة محليا وجهويا وكذا من مبادرة للمجتمع المدني، من اجل ما ينبغي من نقاش وتنوير وجديد يهم موقع كيفان بلغماري ومعه باقي مواقع المدينة، ومن ثمة ما ينبغي من خريطة أثرية محلية بمعايير علمية محددة، حتى لا يظل حديث هذا الشأن حبيس تقارير تعود لزمن الحماية بالمغرب قبل أزيد من مائة سنة.
وعليه، يحق السؤال حول ما هو بحث اركيولوجي حديث يهم زمن ما قبل التاريخ بتازة؟، ومن خلاله ما هناك من اطروحات عن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث؟، ومن ثمة أي تمحيص وتدقيق من قبل الباحثين الأركيولوجيين المغاربة حول ما هناك من تراكم عن زمن الحماية؟، وأية حصيلة اركيولوجية رافعة لتاريخ تازة في علاقتها بمحيطها منذ القدم حتى الفترة المعاصرة ؟. وأي موقع للمدينة ولمواقعها الأثرية الضاربة في القدم، في اهتمامات وزارة الثقافة وفي خريطة الأبحاث الاركيولوجية الوطنية عن هذه المؤسسة وتلك ؟. وعيا بما اسهم به علم الاركيولوجيا في أعمال الباحثين ومنهم المؤرخين رغم حداثته، من حيث تعرفهم على وانماط حياة بشرية وحضارة موغلة في القدم وكذا تاريخ وتراث ومعالم عدد من المواقع ومنها مدن. علما أن الأركيولوجيا التي كانت تقتصر على ما هو قديم، باتت بوظيفة امتدت لِما هو حديث ومعاصر من الأزمنة. ومن ثمة ما حصل من إغناء على مستوى مصادر معلومة حقل البحث التاريخي، وانفتاح للباحثين على مجالات بحث جامع بين مجتمع واقتصاد وسلوك وهجرات وتمدين وتعمير وعمارة وتوطن وتوطين وعقليات وذهنيات .. وغيرها. وكان الأستاذ عبد الله العروي قد أشار في أحد نصوصه، الى أن الأثريات باتت ألصق التخصصات بالتطور البحثي العلمي التاريخي. وعليه، يسجل للنهج الأركيولوجي ما كان له من فضل وأثر في جعل المعرفة بكثير من الدقة والمصداقية، تجاه ما هو ماض من أحداث ووقائع تاريخية وبصمات مادية ولا مادية.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث