حسوني قدور بن موسى
المحامي بهيأة وجدة
اذا أردت أن تهدم دولة عليك أن تفسد القضاء و تسند الأمورالى غيرأهلها وتهمل دورالمحامي وتقلل من شأنه و مكانته ولا تجعل له أهمية من أجل اذلاله وأن تنشرالأفكارالهدامة التي تؤدي الى اهتزاز صورة القضاء وفقدان هيبته عن طريق انتشار صورالظلم والمحسوبية والسمسرة والتدخل في شؤون القضاء و بذلك يصبح المواطن مع الأسف خاضع لعدالة مشوهة و ظلم مقنع بأحكام قضائية فاسدة، و في هذا الصدد قال ابن خلدون: ” لا تولوا أبناء السفلة والسفهاء قيادة الجنود و مناصب القضاء وشؤون العامة لأنهم اذا أصبحوا من ذوي المناصب اجتهدوا في ظلم الأبرياء وأبناء الشرفاء واذلالهم بشكل متعمد نظرا لشعورهم المستمر بعقدة النقص والدونية التي تلازمهم وترفض مغادرة نفوسهم مما يؤدي في نهاية المطاف الى سقوط العروش و نهاية الدولة ، ان الدولة المدنية الحديثة هي دولة المؤسسات تقوم على الفصل الحاسم والتوازن بين السلطات و الابتعاد عن استعمال الدين لأغراض سياسية و عن الخلافات الفقهية و التأويلية و تقبل القواعد والمبادئ المجردة للدولة الحديثة وهذا لا يعني الابتعاد عن المبادئ الكلية ، و من المفروض أن تكون مؤسسات الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية مؤسسات و سلطات تخدم الشعب و تحمي حقوقه و مصالحه و تحقق الأمن الداخلي للمجتمع و ملاحقة المفسدين و حماية أمن البلاد باقامة قضاء عادل نزيه و مستقل يحمي مصلحة الوطن والمواطن و أن يرتقي القاضي بعمله و علمه و سلوكه المهني والشخصي الى مستوى عال يجعله بمنزلة رفيعة و يجعله محل احترام و ثقة و تقدير المواطنين ، فالقضاء هو الذي يحمي المواطن و يحفظ انسانيته و يصون كرامته و يرعى حقوقه وهو الذي يجعل المواطن يشعر بهيبة الدولة التي ينتمي اليها ويجعله كذلك يتمسك بمواطنته و بوطنه فلا يهاجر من بلده بحثا عن دولة العدل والأمن والأمان فالقضاء العادل هوالذي يحفظ استقلال الدولة و طمأنينة مواطنيها، فالدول الحديثة المتقدمة الديمقراطية تؤسس في العادة قضاء مستقلا عادلا كي يحفظ استقلالها و يؤسس لطمأنينة مواطنيها وارساء موازين العدل والحق و محاصرة الباطل و محاربة الظلم والفساد والمفسدين لأن دوام الدول واستقرارها ترفرف في سماءها رايات العدل والمساواة، فالعدل كما يقال أساس الملك و في ظله يشهد ازدهارا و تطورا و تقدما في جميع مجالات الحياة لأن حياة الأمن تفجرالطاقات و المواهب و تستفز الهمم والتنافس في البناء والتقدم. ان فساد القضاء يعني فساد الحكم و فساد السياسة و فساد الاقتصاد و فساد الاستثمار والتجارة و فساد التربية و فساد المجتمعات و ضياع الأخلاق و تفكك الأسر و فساد القضاء هو منبع كل شر لأنه هو الجهة التي يفترض فيها صون الحقوق و حماية الناس و حماية ممتلكاتهم و صون أعراضهم و اقامة ميزان العدل و الحق، فاذا فسد القضاء و فقد مكانته وهيبته و أصبح مرتعا للظلم والباطل والرشوة والمحسوبية فان هذا يؤدي حتما الى فساد جميع قطاعات وأجهزة الدولة الأخرى فمن باع نفسه و ضميره وأخلاقه بثمن بخس ليظلم الناس فقد قلل من شأنه و كرامته ، ان اقامة العدل وظيفة أساسية في دولة الحق والقانون، فالقضاة يتصرفون في حقوق وحريات المواطنين والجماعات وشرفهم وأمنهم ومصالحهم وهذا الدور يعكس مدى خطورة منصب القاضي الذي قيل عنه قديما : “من ولي منصب القاضي فقد ذبح نفسه بدون سكين” وقيل عن القضاء إنه “مقياس الخير في الأمم وهو معيارالعظمة فيها وهو رأس مفاخر كل أمة حية و راشدة ” و قيل“ فساد القضاء يفضي إلى نهاية الدولة ” إن القضاء هوالطريق إلى تحقيق العدالة والإنصاف ومنع الظلم وهو في الوقت ذاته الميزان الذي يوازن بين جميع أطراف المجتمع ومكوناته السياسية وفقاً للدستور وهو الذي يضمن تطبيق القوانين وتنفيذها بالشكل الصحيح ويمنع تجاوزها والتعدي على حقوق الناس ، كان القاضي في بني اسرائيل اذا اختصم له خصمان رفع أحدهما الرشوة في كمه فأراها للقاضي فلا يسمع الا قوله ، فأنزل الله قوله : ” سماعون للكذب أكالون للسحت” (المقسطين 42) والظلم في أي مكان تهديد للعدل، والانسان العاقل لا يبطل حقا و لا يحق باطلا و لن تكون عادلا ما لم تكن انسانا، و دولة بلا عدل مثل النهر بلا ماء، ينبغي للقاضي أن يكون يوما في القضاء و يوما في البكاء على نفسه و على ما سببه من ظلم و مأساة للمواطنين الأبرياء والمحامي هو العقل الذي يجعل من القانون أداة طيعة بين يديه ليفكر و يحلل من أجل حماية حقوق و حريات المواطنين من الخروقات والاعتداءات والتعسفات و هو رجل القانون الذي يبرز للقاضي العيوب والثغرات و هو عبارة عن كتاب يقرأه القاضي ليهتدي به الى صياغة أحكامه، وأي عدل ينتظر عندما يكون الظالم هو نفسه القاضي والمحامي عندما يتفقان على تحريف القانون و طمس الحقيقة ، و طمس الحقيقة كيد قديم ، يطمسون الحقيقة و يعلنون غيرها و يسمونها بغير أسماءها ، سلسلة متصلة و لكن الأشنع في طمس الحقائق أصبح بطريقة منظمة و مكائد مخططة لتغليف الباطل و تزيينه بأغلفة براقة تخدع الناس يجدون لها مخرجا بالتحايل على القانون و للأسف في بعض الأحيان يكون من يفترض فيه حماية المواطنين طرفا في عملية طمس الحقيقة ، ليس من عمل المحامي والقاضي قللب الثوابت و تضليل الحقائق، فلا تشعر كثيرا بالفخر عندما تحصل على الرشاوي لقلب الحقيقة فالخاسرهو من يسرق حقوق الناس فهذا أقرب الى الدناءة وأبعد ما يكون من الأخلاق الرفيعة التي هي أساس دورالقاضي والمحامي في تحقيق العدالة بين الناس لا افسادها ،ان وجود قاضي نزيه يحكم بالعدل و محامي يحمي حقوق الناس هو من مظاهر تحقيق العدل و تجسيده على أرض الواقع لا في النصوص القانونية فحسب ، و هذا ما هو متعارف عليه كونيا في البلاد التي تحترم القوانين الانسانية و تقدرها و تبرزها بشكل واضح من دون تحريف أو تلاعب أو استغلال لثغراتها، و مهما كان حجم القوة التي يمتلكها الظالم فالقاضي النزيه يتصدى لهذا الظالم بسلاح القانون حتى لا ينتفي العدل على الأحكام الصادرة عنه.
في مفهومها الاجتماعي والنصالي يمكن تعريف مهنة المحاماة بأنها أداة الحرية و تحسين العدالة ، فوظيفة المحامي لا تقتصرعلى المشورة والمرافعة و العمل داخل المكتب بل ان واجباته ومسؤولياته تسمو كثيرا عن مجرد هذه الجهود التي تبذل لكسب العيش فهو ليس مطالبا فقط بالمساهمة في اصلاح القضاء وتحقيق العدالة بين الناس و تطوير القانون والدفاع عن كرامة مهنة المحاماة بل لا بد للمحامي أن يفي بالتزاماته التاريخية في الدفاع عن الحرية والمساواة و مواجهة مخاطر الظلم والاستبداد والفساد في المجتمع، لكن مع الأسف أصبحت مهنة المحاماة ميدانا لاستعراض القوة البدنية داخل قاعات المحاكم و نفخ الصدر والمبارزة واستعمال الحيل لكسب المال بجميع الطرق غير الشرعية عبر شبكة السمسرة وهناك قليل من المحامين الذين يجاهرون بمحاربة الفساد الذي ينخر مهنة المحاماة والقضاء ، توجد مجموعة كبيرة من المحامين النزهاء الذين يعيشون بعزة و كرامة لا يمدون أيديهم للفساد ولكن هناك مجموعة من المحامين المفسدين السماسرة الذين يعيشون على الوساطة، و كم من مواطن يبحث عن محام له علاقة بالقاضي و لا يهمه ثقافة و نزاهة المحامي و كفاءته القانونية والحقوقية بقدر ما يهمه علاقته بالقاضي الذي بيده ملف القضية فالمحامي النزيه يقضي الليل ساهرا باحثا منقبا حتى اذا ما أتم عمله و أرضى ضميره فوجئ بصدور حكم مخالف للقانون بسبب الفساد القضائي ، انه لأمر يدعو للقلق الشديد على واقع مهنة المحاماة و القضاء نظرا لاهتزاز ثقة المواطنين في قضاء بلادنا بالشكل المخيف بل و تكون هذه الثقة منعدمة حين يجد المواطن نفسه طرفا في النزاع أمام القضاء فيصبح المواطن المظلوم والمحامي النزيه ضحيتان معا يشعران بالظلم وهنا يتجلى مظهر اذلال وهدم مهنة المحاماة و جعلها تخجل و تخاف و تنكمش و تفقد قوتها وهبتها و دورها الرائد في الدفاع عن الحقوق والحريات، كان المحامون على مر العصور في طليعة الدفاع عن حقوق وحريات شعوبهم واستطاعوا عن طريق النضال تغييرأنظمة سياسية طاغية مستبدة و تحقيق مطالب شعوبهم والأمثلة كثيرة على ذلك نذكر منها نضال و كفاح زعيم شعب جنوب افريقيا المحامي “نيلسون مانديلا ” الذي قضي ما يقرب من 26 سنة في سجون النظام العنصري “الأبرتايد” واستطاع تحرير شعبه من العنصرية و القمع والاضطهاد و كذلك المحامي “ماهاتما غاندي” الزعيم الهندي الذي استطاع تحرير بلاده من الاستعمار الأنجليزي و كان يشرب حليب الماعز بدلا من شراء منتحات الاستعمار و كذلك المحامي المصري المشهور سعد زغلول الذي دخل ذات يوم الى قصر حاكم مصرالخديوي اسماعيل باشا ليس من أجل منفعة شخصية أوالحصول على المال بل طلب منه بكل شجاعة الابتعاد عن التدخل في شؤون القضاء والتشويش على مهنة المحاماة والتاريخ مليء بأمثال هؤلاء المحامين الشجعان الأقوياء بثقافتهم وعلومهم و نضالهم و صبرهم، و في هذا الصدد قال المفكر الفرنسي “فولتير” عن مهنة المحاماة :” كنت أتمنى أن أكون محاميا لأن المحاماة أجمل مهنة في العالم فالمحامي يلجأ اليه الأغنياء والفقراء على السواء و الأمراء و العظماء” ولهذا فان المحامي يتميزعن غيره بالقوة والشجاعة والصدق والدفاع عن حقوق الانسان و عن المضطهدين والمظلومين في العالم كله دون خوف من أية جهة كانت ولهذا السبب كان أهل اليونان القدماء يمنعون مهنة المحاماة على العبيد لأن العبيد كانوا في ذلك الزمان ضعفاء الشخصية لا يستطيعون محاجة القاضي الند للند ولأن مصدرالمحاماة هوالحماية والمحامي الضعيف لا يستطيع بطبيعة الحال حماية الانسان الضعيف، و في هذا الصدد أذكر بما قام به المحامون في فرنسا من احتجاجات في الشارع في جميع المدن الفرنسية دامت عدة شهور حتى وصل بهم الحال الى ألقاء بذلاتهم السوداء في الشارع العام تعبيرا عن سخطهم و استمروا في الاضراب العام عن العمل الى أن حققوا مطالبهم المشروعة عن طريق النضال وليس عن طريق التوسل والتذلل لوزيرالعدل أو حتى لرئيس الجمهورية الذي ثار في وجهه نقيب هيأة المحامين في مدينة “دانكارك” شمال فرنسا اذ قال له : ” أنت السبب في تدهورمستوى معيشة المحامين” هكذا يجب أن يكون المحامي صاحب العزة و الكرامة. قال الفقيه عبد الرزاق السنهوري: ” ليس من عمل المحامي قلب الثوابت أو تضليل الحقائق فلا تشعر بالفخر كثيرا عندما توزع الرشاوي لكسب القضايا لأنك أصبحت مجرما بسبب مجرم فأنت اذن مثله لأنك تخسر ذاتك لتربح قضية فالقضية رابحة و ستكون أنت الخاسر أن تسرق حقوق زملائك المحامين و أن تنافسهم بصورة غير مشروعة فهذا أقرب الى الدناءة و أبعد ما يكون عن الأخلاق الرفيعة التي هي أساس مهنتك فلا تكذب و قبل ذلك كن انسانا لتكن محاميا “.
ان القضاء هو ملاذنا جميعا حكاما و محكومين وهذا ما يدعونا الى المطالبة بتحصين هذه المؤسسة و رفعها الى مستوى ينأى بها عن كل الشبهات و يجعلها موضع ثقة المواطنين و يجعل القضاة بمنزلة رفيعة بعلمهم و سلوكهم و نزاهتهم وهذا يستوجب وضع ضوابط وأليات صارمة لمراقبة عملهم و سلوكهم من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية و رفع الحصانة عن القاضي الذي ثبت في حقه التلاعب بحقوق و مصالح المواطنين و محاكمته طبقا للقانون، ان سلطة القاضي و حصانته يجب أن تكون دافعا للتعامل مع المواطنين الذين يقفون أمامه بالأسلوب الذي يحفظ كرامتهم وانسانيتهم بعيدا عن عقدة التعالي والفوقية و أن يفرق القاضي بين المتهم و المدعي الذي يطالب بحق له و المدعى عليه الذي له الحق أن ينفي وجود هذا الحق أما المحامي و هو الجناح الأخر للعدالة فيجب أن يتحلى بأعلى درجات الالتزام بقيم وأخلاق وأدبيات مهنة المحاماة التي يسميها البعض مهنة الفرسان و كثيرا ما نسمع عن معاناة بعض المواطنين في التعامل مع بعض المحامين الذين يشتكون من التصرفات الضارة بحقوقهم ما يؤدي الى المماطلة و ضياع الحقوق و بالتالي اعاقة البت في الدعوى و تعطيل تنفيذ الأحكام وهنا يأتي دور نقابة لمحامين التي وجدت من أجل تنظيم عمل هذه المهنة بكل أبعادها المتعلقة بالوطن والمواطن و ممارسة المهنة و معالجة الشكاوى التي تمس حقوق ومصالح المواطنين، ان موضوع المحامي والرشوة التي يسميها بعض المنحرفين (اكراميات) أو( قهوة) أصبح ظاهرة سلبية في بلادنا ، فتحولت الرشوة والفساد المهني الى سلوك أو ثقافة مزمنين لدى بعص المحامين رغم أن كل مهنة فيها الخائن والأمين والرفيع والوضيع والجاهل والعالم ثم أن بعض المحامين قد يسيئون الى قواعد المهنة و لا تدان المهنة كلها بذلك و طريق النجاح في المحاماة هو البحث عن العلم والمهارة في استنباط الأدلة و سردها و المقدرة الخطابية و الصدق والالتزام بأخلاقيات و أدبيات المهنة والابتعاد عن تحريف الحقيقة لأن المحاماة مهنة شريفة تؤدي خدمة عامة و تعيش في ظل الحرية و تسعى الى تحقيق العدل و تطبيق القانون و هي رسالة انسانية نبيلة و لا شك في أن انتشار الرشوة يؤدي حتما الى الاخلال بالمساواة القانونية بين المواطنين فتهضم حقوق الضعيف بسبب تقديم الرشوة و هذا يؤدي الى اثارة الأحقاد والضغائن بين المتقاضين ورواج الكيد و الغش و كثرة السماسرة المتاجرين بحقوق المواطنين حتى أن المجتمع أصبح غابة يكون البقاء فيها للقوي و الخطير في هذه الحالة أن الرشور لها أثر سلبي على عمل المحامين الشرفاء المهنيين الذين يرفضون هذه الممارسة الخبيثة حيث ينقلب المحامي على مهنته بالتواطؤ ضد موكله عن طريق عرقلة الاجراءات وهذا يعني أن المحامي تملص من مسؤوليته فضلا عن ابتزاز موكله مثل حالة الوعد بالحصول على سراح مؤقت لمتهم معتقل مقابل مبالغ مالية الى غير ذلك من الأساليب التي لا تليق بمهنة المحاماة و قد يربح المحامي قضية بهذه الطريقة الدنيئة لكن سيأتي يوم ينقلب فيه السحر على الساحر فيصبح المحامي المرتشي هو نفسه ضحية رشوة واحتيال وهكذا لا ننتهي من هذه الدوامة التي تقتل مهنة المحاماة، و من المؤكد أن الرشوة حاضنة رئيسية للارهاب و هي ناتجة عن ضغف المواطنة فيتحول المحامون الى مرتزقة مهنيين غايتهم الأساسية هي الحصول على المال بطرق و وسائل مختلفة و هذه الظاهرة تهدد كيان الدولة و تضعف ثقة المواطنين بالمؤسسات الحكومية والمهنية التي ستصبح ضعيفة ومخترقة وغير قادرة على تقديم خدماتها بالشكل الصحيج، فالمحاماة مهنة قضائية تهدف الى احقاق الحق فهي تنيرالطريق أمام القاضي لتطبيق القانون و تساهم بشكل كبير في سيرالعدالة ، أما اذا انقلبت العدالة الى تجارة والمحاماة الى الاحتيال و البيع والشراء دون ضمير وأصبح المال هو صاحب السيادة فهذا يؤدي الى انهيارالمؤسسة القضائية و افساد مهنة المحاماة.