الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب : الحاج إدريس.. محطات ذات دلالة

admin
كتاب واراء
admin1 سبتمبر 2022آخر تحديث : منذ سنتين
الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب : الحاج إدريس.. محطات ذات دلالة

 عبد اللطيف مجدوب

في مقال سابق “ج إدريس بآفسو وجلاء القوات الإسبانية“، تمت الإشارة باقتضاب إلى الأدوار الحيوية التي كانت منوطة بالحاج إدريس، بين فقيه إمام مسجد ومرشد ديني في الجيش الملكي، هذا علاوة على المكانة الاجتماعية المرموقة التي كان يتبوأها بين قبائل الريف وقلعية وبني بويحيى تحديدا. وغني عن القول إن من بين الوثائق التي كان يحملها “هوية” باللغة الإسبانية (النكْوث)، لكن سرعان ما تم تجديدها في أعقاب الجلاء الإسباني عن الشمال، فأصبحت تحمل خاتما “للتاج الملكي” مع التنصيص على مهنته كمرشد ديني في صفوف القوات الملكية المغربية، ببزة عسكرية وارتداء نظارة سوداء.

هذه الهوية كانت تخوله في السابق الحصول على “منحة” تتجاوز ثلاثة آلاف بسيطة بالعملة الإسبانية آنذاك، قبل الجلاء ببضعة أشهر؛ وهو مبلغ محترم، زاد أن عزز وضعه المالي الذي تنوعت مداخيله بين الزكوات (العشور) والإكراميات وإيرادات إيجاره لمنزلين كان يمتلكهما ببلدة الدريوش.

لكن حدث أن زهد في كل شيء مقابل توفير مستقبل آمن لأبنائه، علاوة على التخفيض الذي خضع له معاشه من قبل السلطات المغربية التي “شككت” في إصابته البصرية خلال أدائه الخدمة “العسكرية”، فألزمته باجتياز فحص طبي دقيق، على إثره عينوا له معاشا هزيلا، لم يكن ليكفيه حتى لتغطية مصاريفه الشهرية، لولا “منحة” الأوقاف والشؤون الإسلامية برسم إمام مسجد من جهة، وأحيانا “الصدقات” التي كان يجنيها من إحيائه لليالي الذكر والأمداح النبوية، من جهة أخرى .

الحاج إدريس وشغفه بالمطالعة

حباه الله ذاكرة حافظة، لا يأتي على فقرة أو صفحة في كتاب حتى تكون رسخت لديه، ويصبح قادرا على استرجاعها بسهولة تامة. أما ولعه بالقراءة والمطالعة أو بالأحرى الاستماع فقديم، وقد تكون البيئة “المعرفية” التي روجت لها جامعة القرويين؛ في بداية الستينيات من القرن الماضي؛ أحد الأسباب في شغفه بالكتاب والسعي إلى اقتنائه، وأعذب الجلسات وأغناها.. هي أن يجد نفسه مصغيا بكل جوارحه إلى سارد من أبنائه يسرد عليه من كتاب أو وثيقة أو مخطوط.. وكان أحياناً رحمة الله عليه يداعب جفونه الكرى فيغالبه، ويعتدل في جلسته مبادرا القارئ بجملة تقليدية (عاود … أعد.. فين كنا)، كثيرا ما كان يرددها على مسامع قرائه، لا سيما في أوقات القيلولة بعد فراغه مباشرة من وجبة الغداء، فقد كان يرى فيها (سماعه القراءة) باعثا على الهضم وتبْلة لقيلولة مريحة. بيد أن أصعب الجلسات هي أن يخوض مع جليسه في قضية في “النحو العربي”، كأن يطالبه بكلمة وما محلها من الإعراب، فتثور ثائرته حينما يعجز قارئه عن الجواب أو يلوذ بالصمت والتمتمة.

اشتهرت مدينة فاس العتيقة بتنظيم سوق للكتب المستعملة (سوق ادْلالا)، كانت تعقد أسبوعيا في الهواء الطلق صباح كل يوم أحد بحي السبطريين، أو بمدخل إحدى بوابات جامع القرويين؛ يؤمها أساتذة وطلبة وكتبيون وصيادو الهموز..، تعرض فيها على مدار “الثلاث ساعات” مجلدات وكتب ومخطوطات وݣراجي محكمة الإغلاق، وكثير من الحضور كانت أعينهم مركزة على هذه الأخيرة، ينتظرون افتتاح المزايدة بشأنها.

الحاج إدريس كان يكتفي بملامسة حواشيها وتقدير طولها ووزنها، فينخرط هو الآخر أحيانا في رفع “سومتها”. وذات يوم ولج إلى المنزل ونادى على حين غرة أحد أبنائه، وهو ما زال يتصبب عرقا من حمله (الݣرجة)، غنمها في مزاد علني، دعا ابنه إلى التحلي بالحيطة وهو يفك حبال صندوقها، مخافة تمزيق أو بتر “لنفائسها”، لكن مزاجه سيتعكر ويرسم على سطيحة محياه عبوس الندم والإحساس بالخديعة حينما استعرض كل محتوياتها عبارة عن كنانيش وأوراق مبعثرة وصفحات من الكاغد المقوى ودفاف كتب منزوعة الأحشاء.. وأكبر هزيمة كان يحاول تحاشيها هي أن تعلم زوجته بخف حنين الذي عاد به من سوق الكتب!

وإمعانا منه في رد الصاع صاعين، جمّع هو الآخر أوراقا ممزقة وكتبا مدرسية عفا عنها الزمن.. وصفحات مبعثرة ليُحكم ترتيبها بشكل أفقي داخل صندوق “الكارطون”، ثم توجه بها إلى السوق في وقت باكر.. ويدعها في انتظار ارتفاع حمى المزايدة العلنية ليدفع بها إلى يد سمسار، ثم يتوارى إلى الخلف ليتابع ݣرجته على وقع حناجر تتعالى برفع سومتها!

لولعه بالكتاب والمطالعة، واستكمالا لعناصر الأبهة “المعرفية” التي كانت سائدة بين الفقهاء ورجال النوازل، ساقه حسه المعرفي إلى الاهتداء إلى نجار، ليصنع له خزانة كتب بمقاسات خاصة، فجاءت أخيرا لتحتل حيزا كبيرا من غرفته، وجعل جلسته الرسمية محاذية لها؛ جمع بين رفوفها الثلاثة ألوانا من المجلدات والمصنفات، معظمها في الفقه المالكي وعلى المذاهب الأربعة والتفاسير والحديث.. كان ينميها إما من صدف السوق أو اقتناءات معينة، يتباهى بها أمام كل الضيوف والزوار الذين يقصدونه في منزله، كما أودع بدرجها وثائق وأدوات خاصة. حوت الخزانة، وعلى مدى خمس سنوات، أزيد من أربعمائة كتاب ومخطوط وكنانيش ومصنفات وتقييدات ووثائق.. ولفرط تعهده لها بالعناية الكبيرة، كان يعرف بالضبط موقع كل كتاب أو وثيقة، حاول في السنوات الأخيرة ترقيمها وجردها في لائحة خاصة.

ومعلوم أن سفريات الحاج إدريس تميزت دوما باصطحاب كتاب أو كتابين بقصد المطالعة، علما أن المسجد الذي كان يتولى إمامته كإمام راتب هو الآخر يشتمل من بين مرافقه على “خزْنة” بها بضعة كتب إلى جوار سجادتين.

كثيرا ما كان يصادف أو تعرض عليه قضايا تخص العبادات والفرائض في شكل “نوازل”، فيعمد إلى خزانته يستفتيها، وأحيانا يحرر بشأنها رسائل. كما بلغ به الطموح المعرفي أشده حينما عزم على”تأليف” كتاب (السبحة بين الحرمة والمنحة) [أو هكذا] ظل ينقب عن كل أقوال الفقهاء بشأنها لزمن غير يسير، ليجملها أخيرا وبأسلوبه المتميز، ولا أحد يعلم ما إن كان عرضها على ناشر أم لا.

الحاج إدريس والانضباط العسكري

الحاج إدريس كانت له قطعة أرض بدوار المجادبة؛ فخذة من قبيلة الحياينة، بها أشجار الزيتون، وقد دفع بها إلى أحد أقربائه ليتعهدها بالرعاية والمراقبة مقابل إيراد هزيل إما زيتا أو زيتونا، إلا أن ترسيم حدودها كان محل نزاع، فكان لا يفتر عن تحرير “المقالات” والطلبات القضائية.. وإمطار المحاكم بها، وحينما يكسب”دعوى قضائية” يمنحه ذلك وزنا آخر لدى أفراد العشيرة؛ فمنهم من كان يتوسل به في رفع مظلمة أو إحقاق حق، فيعمد ج إدريس إلى أوراقه يسودها ويرفع دعاوى قضائية.. كتّابه المحررون هم طبعا أبناؤه، يملي عليهم النصوص كاملة ليراجعها قبل إيداعها صناديق البريد، وقد يكون تمرس بعض أبنائه بتحرير رسائله مكسبا لهم في تعودهم على السياق اللغوي والكتابة الإنشائية.

وقد ولّد انخراطه في سلك الجندية، ولو من بوابة الإرشاد الديني، من جانب وتشبعه بالإجراءات الإدارية والقضائية المتبعة من جانب آخر، لديه حسا انضباطيا، سقاه إلى إضفاء مسحة إدارية على منزله، فقد ربط بين غرفتي منزله بجرس، يعفيه من النداءات، فيكتفي بالضغط عليه حتى يهرول إليه في غرفته المقابلة أحدهم؛ ابنته أو ابنه أو زوجته في أقصى الحالات، وكثيرا ما كان يستعمله في الصباح الباكر كإشعار للاستعداد إلى الذهاب المدرسي، ولا يكترث لأحد ما إن كان راغبا في مزيد من النوم … كما اتخذ من (القوس) أو جناح للمعدات المنزلية حبسا لكل من حاول عصيان أوامره أو أتى “بجريرة”، يمكث فيه الحبيس بعض الوقت إلى حين يرعوي.

حدبه على أبنائه

كل من أبنائه (ذكورا وإناثا) يحتفظ بذكريات خاصة، ليست بالضرورة أن تكون شبيهة بما يحتفظ به الآخر؛ لأنهم جميعا وبدون استثناء ذهبوا بمعيته ورفقته، وأحيانا تحت تلابيب سلهامه في الأيام الشتوية القارسة.

كان هناك بجوار درب بوخريص، مقر إقامته، درب القليلي، اتخذه أبناء الحارة مرتعا لهم، إما في لعب الكرة الجماعية أو باللهو بالكريات الرخامية، كانت فترة الظهيرة بهذا الدرب محفوفة بالمخاطر، الكل كان يتوجس من الجيران ساكنة الدرب ساعة القيلولة، ومنهم من لا يتردد في الهجوم على الأطفال وإشباعهم ضربا ورفسا ومصادرة وسائلهم في اللعب. وذات يوم بلغت حدة الهيجان بأحد الجيران أن طارد أحد أبنائه وهو يصرخ (أبا..آبا..) فانتهت استغاثته إلى أذني والده ج إدريس، فانتفض مسرعا وهب لنجدة ابنه، وأدرك الجار “الجاني” وأمسكه من حزامه وأوسعه ضربا مبرحا؛ أصابه في عينه اليمنى، أعقبت الواقعة سلسلة من المقابلات الماراطونية بمخفر الشرطة، ومن ثم لم يعد أحد يجرؤ على مس أحد أبنائه بأذى.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.