قراءة في كتاب “المثقفون المزيفون” Les Intellectuels faussaires للفرنسي” Pascal Boniface”، أو حين ينتصر إعلام خبراء الكذب .. الكتاب الذي رفضته 14 دور نشر فرنسية .. (ج1)

admin
2021-07-30T01:47:05+02:00
كتاب واراء
admin29 يوليو 2021آخر تحديث : منذ 3 سنوات
قراءة في كتاب “المثقفون المزيفون” Les Intellectuels faussaires للفرنسي” Pascal Boniface”، أو حين ينتصر إعلام خبراء الكذب .. الكتاب الذي رفضته 14 دور نشر فرنسية .. (ج1)

ليس الكذب من الأشياء التي يجب المرور عليها دون اكتراث، بل هو سلوك يتوجب الوقوف عليه كظاهرة اجتماعية وسمت سلوك البشرية منذ الأزل، وتطور هذا الفعل ليصل درجة الأذية وإلحاق الضرر، وإقرار الكذب كونه حقائق وجب تصديقها. الكذب بهذا المعنى سلاح فتاك يدمر القيم الإنسانية. والكذب نجده عند الأطفال للتباهي أو لفت انتباه من حولهم، أو لإثبات الذات، وما إلى ذلك من الحالات التي تناولتها علوم التربية وعلم النفس بشكل مستفيض. ثم يكون الكذب متفاقما ليصبح حالة مرضية يستعصي علاجها، إن لم نقل يستحيل ذلك. والكذب مستويات، أرقاه من يحترف الكذب ويحدث ويخطب في الناس أو يكتب ويؤلف كتبا، أو ينشر الأكاذيب عبر الصحف والمجلات والكتب المؤلفة. إنها الاحترافية في الكذب، من أجل تغليط الرأي العام وتضليله، أو توجيهه الوجهة التي يريده أن ينهجها. وهذا أخطر أنواع الكذب. لهذا تجد أقلاما مسخرة لهذا الغرض، وهم الموسومون بالمثقفين المزيفين. لأنه رغم ما أوتوا من نباهة وعلم ومعرفة، وفكر ثاقب، تجدهم برعون في التضليل واتباع الأهواء وخذلان الحق وإعلاء الباطل. إنهم الأفاكون. يدافعون عن قضية ما، ويعمدون لإقناع الآخر بفعاليتها وصدقها وحقيقتها. ويتم ذلك بواسطة أساليب مختلفة، حسب القضايا والمواقف، منها مجال إنتاج المسلسلات الكاذبة، والأفلام السينمائية المزيفة. بريطانيا وأمريكا برعوا في صناعة أفلام ومسلسلات تبخس الهنود الحمر، فصورتهم متوحشين، وصوروا أنفسهم متفوقين عن بقية شعوب العالم، وبرروا بالأكاذيب استعمارهم لبلدان المعمور، وصنعوا الرؤساء، وأقنعوا العالم بالأمراض والحروب والأوبئة، وصنعوا اللقاحات … وخلف هذا تجد ثلة من المثقفين المزيفين، كما أسماهم Pascal Boniface. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يكشف هذه النخبة من المثقفين الذين لا يمكن المساس بهم، لأن هناك الأسياد الذي يحمونهم، يطلون علينا كل يوم عبر شاشات التلفزيون، وأثير الإذاعة، وأعمدة الصحافة … ومنهم رجال الدين الذين أغرقوا العالم بأكاذيبهم. يكفي أن هؤلاء المزورين يخترقون جميع المجالات بما فيها الرياضة. وعملهم هذا هو تدميري وتخريبي، لخدمة مصالح فئة تتحكم في العالم وشعوبه وثرواته.

  • الكاتب

يعتبر الكاتب الفرنسي المعاصر (1956) Pascal Boniface أحد الرواد في مجال الجغرافيا السياسية géopolitique)). أسس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS). محاضر في معهد الدراسات الأوروبية بجامعة باريس الثامنة. اهتم بمجال الأسلحة النووية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتأثير الرياضي، خاصة كرة القدم. أصدر العديد من المؤلفات جاوزت 70 كتابا في مجال الجيوسياسة، حظي البعض منها بالترجمة لعدة لغات.

  • الكتاب

اعتمدنا في هذه القراءة على الكتاب الأصلي بلغته الفرنسية، باعتبار أن الترجمة، مهما بلغت دقتها هي كتابة ثانية للنص الأصلي. يقع الكتاب الأصلي في 256 صفحة من الحجم المتوسط. وقد اعتمدنا النسخة الرقمية. يحمل الكتاب العنوان التالي: 

 Les Intellectuels faussaires :  Le triomphe médiatique des experts en mensonge

 (النسخة الرقمية: Jean-Claude Gawsewitch Éditeur, Paris, 2011, )

أما الترجمة فلا تزيد صفحاتها عن 178 صفحة من الحجم المتوسط، تحمل عنوان: المثقفون المزيفون – النصر الإعلامي خبراء الكذب. ترجمة، روز مخلوف. عن مؤسسة ورد للطباعة والنشر. دمشق. ط. 1، 2013. فيبدو حجم الترجمة أقل من الأصل، وهذا في حد ذاته أمر، حسب اعتقدنا، أمر غير مستحب، لأن الفرق بينهما كبير. وكأن المترجم قام بتلخيص الكتاب وليس ترجمته. هكذا تبدو الترجمة مختزلة للنص الأصلي. 

ينقسم الكتاب إلى قسمين: 1) انعدام الأمانة الفكرية عامة. وينقسم هذا الجزء إلى سبعة عناوين وخاتمة. فيتناول قضايا، كون المثقفين في فرنسا هم بمثابة ملوك، ومسؤولية وسائل الإعلام، والأخلاق الخادعة، التنبيه لخطر العالم الغربي، وإسرائيل في خطر، والفاشية الإسلامية كمفهوم أجوف. والخوف من الإسلام. 2) في شأن بعض المزيفين. ويتوزع هذا القسم على ثمانية محاور، بعد التمهيد : القصص المثيرة للعم ألكسندر آدلير. الكذب التسلسلي لكارولين فوريست. محمد سيفاوي المهاجم العنيف والضروري للإسلام. تيريز ديلبيش، السيدة تابدور. فريديريك إينسل، الرجل ذو النفوذ. يختار الموسيقا من يدفع ثمنها، فرانسوا هزبورغ. من ليو فيريه إلى توركماد. زعيم المزيفين برنار هنري ليفي.

هكذا تبدو العناوين الفرعية أكثر دقة، ويعمد الكاتب إلى تسمية الأشخاص المعنيين بعملية التزييف، وكذا الجهات التي هي موضوع عمليات التزييف.

  • لماذا تأليف هذا الكتاب؟

يعتبر بونيفاس من الباحثين المثقفين الذي يعملون على فضح المثقفين المزيفين. وقد رفضت نشره 14 دار للنشر الفرنسية. مثقفون مزيفون يقوم بتصنيعهم الإعلام ويجعل منهم خبراء في الكذب، حيث تستحوذ ثلة من الصحفيين، والمعلقين الأنجاس الذين لا ضمير لهم، على الفضاء الإعلامي. أما بالنسبة للمشهد العربي فالوضع أسوأ بكثير.

يقول الكاتب إن دهشته كانت كبيرة كلما اكتشف الكذب على يد خبراء وعلماء يقومون بتمرير الكذب بطريقة عادية، وكأنهم يبعثون رسالة عبر البريد. الأم هنا لا يتعلق بالخطأ وإنما بالكذب المفتعل والمتعمد من طرف شخص يفترض أن يكون مسؤولا عن كتاباته وأقواله. هذه خيانة كبرى، لأنها صادرة عن خبير يفترض فيه نقل الحقيقة للجمهور المتلقي، وليس تزييفها بحنكة الخبير. ينبري المؤلف في إعطاء العبرة بسلوكه كباحث وكاتب ومثقف، حيث أنه ظل يتخوف من نقل الخطأ أو ارتكابه، لأنه لن يسامح نفسه على ذلك الفعل المشين. لهذا يجد نفسه حائرا أمام سلوك المثقفين المخادعين الذي يسابقون لنشر الأكاذيب، وإقناع الجمهور بصدقها. فيلجؤون إلى سبل غير أخلاقية، ومنابر إعلامية رخيصة لبث الأكاذيب وتضليل العقول، وهم بذلك يمارسون التزييف والارتزاق. تراهم يتبنون قضايا هم برآء منها، لا لشيء إلا للتسويف والتغليط. شأنهم في ذلك شأن من يكذب كذبة وينتهي به المطاف إلى تصديقها بسبب تكرارها والدفاع عنها. فالغاية تبرر الوسيلة بالنسبة إليهم. ثم هم يستغلون تدني وعي الجمهور، فليس الجميع ناضج بما يكفي. فالكذب لا يحتاج إلى البراهين الكثيرة من أجل لإقناع الآخر، عكس الحقيقة التي تستلزم الحجج والإثباتات. 

ينعت الكاتب هذه الفئة من المثقفين بالمزيفين، والمرتزقة، والمخادعين. فهم لا يؤمنون بقضية أو ينتسبون إليها. غير ملتزمين بأي مبدأ أو أمانة فكرية، لأن الغاية تبرر الوسيلة بالنسبة لهؤلاء، وهم يعرفون كيف يتملصون من أي متابعة أو عقاب. الغريب أنه لا يتم فضح هؤلاء المتلاعبين من المثقفين المزيفين، أكيد لأنهم يتصدرون المقدمة للدفاع عن مصالح من يسخرونهم لذلك الفعل. وسائل الإعلام ذاتها، تلك التي تنشر أكاذيب المثقفين المزيفين، لا تجرؤ على تكذيب نفسها بنفسها، خاصة وأن شبكة الأنترنيت تسهل عملية البحث وكشف الحقائق، وبالتالي كشف هؤلاء المثقفين المزيفين.

لعل افضل مثال يسوقه الكاتب هنا عن نشر الأكاذيب وطمس الحقائق بغرض تضليل الجمهور، هو الحملة التضليلية التي قادها هؤلاء المثقفون المزيفون أيام الحرب على العراق، حيث زعموا انها حرب من أجل القضاء على نظام ديكتاتوري، وأن العراق يتوفر على أسلحة الدمار الشامل، والحقيقة أن لا اسلحة ولا يحزنون، وأن الديموقراطية لا يتم تنزيلها بالحرب.

الكذب بهذا الشكل، تتزعمه النخب، وهو ما أدى إلى القطيعة بين الجمهور، الفرنسي مثلا، وبين هذه النخب، أي بين الجمهور والمثقفين المزيفين، مما يفسح الطريق للديماغوجيين، وذلك خطر على الديمقراطية.

  • فرنسا، البلد الذي يعد فيه المثقفون ملوكا   

كتب جان بوتوريل فى كتابه «أعزائى المحتالين» عن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران الذي تمت دعوته من طرف رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر لزيارة بريطانيا، فطلب منها دعوة عدد من المثقفين كي يحادثهم، فكان الجواب أنه يمكن توفير كتلب، وفلاسفة، ومؤرخين، وباحثين، لكن المثقفين فلا. فالمثقفون حسب الكاتب، متجذرون في المجتمع الفرنسي، ويعودون لعصر الأنوار، ويورد هنا قضية “دريفوس” الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم بالخيانة والعمالة لصالح المانيا، وسط موجة من الكراهية لليهود رغم ما كانوا يمتلكونه من سيطرة على مجال المال والأعمال. هنا تصدى المثقفون لهذا الوضع، وأصدروا بيانا يناصرون فيه الضابط الفرنسي، ويطالبون بإعادة محاكمته، منهم إميل زولا، أندريه جيد، ومارسيل بروست، فتمت إعادة المحاكمة وتبرئة الضابط وترقيته ومتابعة من كادوا له. هذا هو المثقف الذي يقصده بونيفاس وجان بوتوريل. فلا تكفي المعرفة وحدها لتكون مثقفا، بل لابد من المواقف والالتحام بالقضايا ومناصرة قضايا الشعب. لهذا فهؤلاء المثقفون يتمتعون بالمكانة الرفيعة بين شعوبهم، وشعوب العالم. فولتير نفسه يحظى بمكانة خاصة ومرموقة، ليس بسبب كتاباته فقط، بل بالمواقف التي أسس لها تجاه العدالة. وكذا المواقف السياسية لفيكتور هوغو دفاعا عن الجمهورية والدعوة لإلغاء حمك الإعدام ومعالجته للقضايا الاجتماعية. فنتساءل عن الدور الذي يفترض أن يلعبه المثقفون؟ هذا الدور هو الذي سيحدد المكانة الحقيقية للمثقف.

نشر جوليان باندا كتابا موسوما ب”خيانة المثقفين” يوضح فيه كيف أنه في نهاية ق19م ابتعد المثقفون عن دورهم الحقيقي، وانخرطوا في لعبة الأهواء السياسية، فصاروا بمثابة مكبحا للواقعية المبتذلة، بل جعلوا من انفسهم محرضا لها. في الوقت الذي يتوجب أن تكون الحقيقة هي الموجه الوحيد للمثقف. لأن سر نجاح المثقفين الفرنسيين، ليست المعرفة وحدها، بل هو تبنيهم للقضايا السياسية، وهذا ما جعل المثقفين ملوكا ويحضون بمكانة مرموقة عند مجتمعاتهم و شعوب البلدان الأخرى، ومنهم، فولتير، وديدرو، وشاتوبريون، ولامارتين، وفيكتور هوغو، وأناتول فرانس، وبارس، وغيرهم. 

قد تكون خيانة المثقف في صمته كذلك، وعدم الاكتراث بقضايا المجتمع. المفروض أن يسخر المثقف موهبته للالتحام بقضايا أمته وبالإنسانية. 

يرى الكاتب الفرنسي Paul Nizan (1905-1940)، أن الأشخاص الذين أنتجتهم الديمقراطية  البورجوازية هم أوفياء لما تنتجه هذه الديمقراطية. فالمفكر الذي لا يجمع بين الفكر والممارسة التحررية، حتما ستكون علاقته أفراد المجتمع سلبية. ثم جون بول سارتر الذي يصف المثقفين كونهم فئة بشرية اكتسبت مهارات معرفية في مجالات علمية، أكسبتها شهرة وهم يستفيدون من تلك الشهرة للانفصال عن المجتمع، وبالتالي انتقاد المجتمع والسلطة في آن واحد وفق مفهوم دوغمائي للإنسان. هذا الرأي الذي أسس سارتر ونيزان عن المثقف ودوره، هو مخالف لتصور باندا، وهو الموقف المعتمد في وقتنا الراهن باعتبار موقفهما “يساريا”. عيب المثقف هو الأنانية والانكفاء على الذات وعدم الاكتراث بمصائب العالم وأهواله. 

أما وقد تفشى الظلم في عالم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وانعدمت المساوات والعدالة، وتنامى الظلم، وضرب حقوق وكرامة الإنسان، فقد تم التسريع بتداولها بفضل التطور الذي تشهده وسائل الإعلام، وسرعة تبيل الأحداث والوقائع، وعليه، لم يعد مقبولا من المثقف أن يبقى متفرجا، متربعا في قمة عاجية، لأن هذا التواصل السهل يفضحه، عكس الزمن الماضي. الأفضل في زمننا هذا أن نكون مع سارتر في طرحه أكثر من طرح باندا. لابد إذن من الالتزام الصادق بقضايا الإنسانية والمجتمعات، والدفاع عنها. نلاحظ في برامج Show – business العديد من نجوم الإعلام يتهافتون نحو تبني قضايا تنم عن التزامهم، فقط لابد من التساؤل عن صدق نواياهم، أم أنهم يسعون لكسب تعاطف الجمهور معهم، وتحقيق النجاح؟ فالمغني الذي يعيش خارج بلده ويتهرب من دفع الضرائب، يساهم في الحد من الفقر، ويمكن اعتباره صادقا في سلوكه التضامني؟ هل دفاع المثقف عن قضية ما هو لتحقيق الشهرة ورفع عدد مبيعات مؤلفاته؟ هذه الأسئلة الإشكالية يطرحها BONIFACE ليخلص أنه يصعب الجزم في هذه المفارقة بين الصدق والنوايا المبيتة. لا يمكن قراءة ذهنية هؤلاء الأشخاص لإلا من خلال أفعالهم وما يقدون من سلوك وممارسات ومواقف. بمعنى، هل المثقف صادق في الدفاع عن قضايا معينة من خلال ما يقدمه من حجج صادقة أو لا؟ لابد من مراعاة الحقيقة التي نادي بها باندا، والالتزام الذي نادي به سارتر ونيزان، كي نضمن صدق المثقف أو نفضح أكاذيبه وزيفه. ناهيك عن معيار الشجاعة، إذ لابد للمثقف من المخاطرة، شأن إيميل زولا الذي خاطر بكل شيء عندما نشر مقالته “إني أتهم”. وكما حضل مع فيكتور هوغو الذي تعرض للنفي بسبب مواقفه. هذا الكلام لا يعني انه لا يوجد صدق في وقتنا الراهن، فقط هو قليل ونادر. (يتبع)

د. محمد حماس

(كاتب من المملكة المغربية) 

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.